المقال الثاني :
يوم أن بكت الغابة دما.. لا دموع 2
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل أن أقفز إلي ذلك اليوم من العام 1978م.. فإنني أريد الإشارة إلي مواقف بعض الأفراد عند الشدائد.. واريد أن أسرد بعض المواقف المماثلة.. بعضها عايشته.. والبعض الآخر سمعت عنه.. وبعض الحكم قرأتها..وكلها تصب في مصلحة سردي لموقف آهل الغابة في ذلك اليوم..ووفائهم.. وإثرتهم ولو كان بهم خصاصة.. ولقد قرأت في أعوام سابقة مقالا لأحد العلماء.. إبتدره بهذا السؤال: لو فوجئت..لا قدر الله.. بخبر صاعق.. بإحتراق بيتك.. أو موت إبنك.. أو ذهاب مالك.. فماذا عساك أن تفعل؟. كانت إجابته كالآتي:
من الآن وطن نفسك..لا ينفع الهرب.. ولا يجدي الفرار والتملص من القضاء والقدر .. سلم بالأمر.. وأرض بالقدر.. وإعترف بالواقع.. وإكتسب الأجر.. لأنه ليس أمامك إلا هذا. نعم هناك خيار آخر.. ولكنه ردئ إنه التبرم بما حصل.. والتضجر مما صار.. والغضب والهيجان
بعد إمتحان الشهادة.. عملت في التدريس للمرحلة الإبتدائية.. مدة لم تتجاوز الأشهر الستة..في ريفي أبونعامة بولاية النيل الأزرق..ولها قصة طريفة قد أعود لها.. إن لم تكن تصب في خانة إبليس شكار نفسو..ثم توجهت صوب الأراضي الليبية.. عبر صحراء مثل الثوب ممدودة.. يباب قفرة جرداء مرت غير محدودة.. كانت رحلة مرة.. بكيت فيها أياما ولياليا.. وندبت حظي.. وتعلمت شيئا.. الا وهو: هل يجدي البكاء؟ ..ولكني خجلت من نفسي أن أدعو الله سبحانه طلبا للنجاة.. لأن العلوق لا ينفع ليلة السفر.. كنت أدعوه بقول الحسن بن هانئ شعرا:
إلهي... لا تؤاخذني.. فإني.. مقر.. بالذي. قد. كان. مني
فكم من زلة لي في البرايا.. وأنت علي. ذو فضل.. ومن
إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني
وما لي حيلة.. إلا رجائي لعفوك. إن. عفوت وحسن ظني
يظن الناس بي خيرا وإني.. لشر الخلق. إن لم تعف عني
تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين.. وتشاء أقداره أن أنجو..له الحمد والشكر.. وأصل.. وأعمل في شركة إنشاءات معمارية.. فيها العديد من العمال السودانيين.. والمصريين الصعايدة.. والمغاربة.. وجنسيات أخري عديدة.. وظللنا في موقع العمل مدة ثلاثة أشهر.. فقط نأخذ سلفيات للإعاشة... دون مرتبات.. لأن الشركة شبه متأخرة في تسليم العمل وإستلام الدفعيات.. وبدأت أسائل نفسي.. ما لي شقي الحظ مشئوما.. أترك العمل في التدريس.. وأقطع الفيافي والقفار.. والصحاري والوديان.. وأعمل في شركة علي وشك الإنهيار؟.. وفي يوم سعيد جاء مندوب الشركة.. وطلب من الجميع التوجه مساءا لمكتب الشركة.. لصرف مرتب شهر.. وفعلا.. وبعد الخامسة مساءا.. توجه الجميع صوب مكتب الشركة في المدينة.. فرادي وجماعات.. الأعمي يحمل مكسرا.. ووصل الجميع.. وإستلموا بقية راتب الشهر.. بعد خصم نصف السلفيات.. ما تم إستلامه لكل منا قد يزيد قليلا عن الستين دينارا... ورجع الجميع إلي الموقع.. وبدأنا الإستعداد للنوم.. والجو هادئ.. لا تسمع صوتا.. والنفوس هادئة.. شبه راضية.. والليل ساكن... وفجأة.. ودون سابق إنذار.. صوت يشق عنان السماء.. ويكسر حاجز الصمت والظلام.. (يا خراب بيتك يا عبد المأصود). (يا خراب بيتك يا عبد المأصود
كان عبد المقصود.. صعيدي.. يعمل نجارا.. وإستلم راتبه.. ووضعه في جيب صديريته.. وجاء للموقع.. وبعد ان تعشي.. التمس راتبه.. فلم يجده.. فصاح وولول. وعلي هذا الصوت ..الكل يجري نحوه ..وفي مخيلتنا أن المبني قد إنهار علي من فيه من الصعايدة.. وتحلق العمال حولهم وكأنها حفلة زواج قديمة في الشمالية.. وعبدالمقصود جالس علي الأرض.. يحثو التراب علي رأسه.. ويصفع نفسه بكلتا يديه علي خده ..الأيمن والأيسر.. وأقرباءه يحاولون تهدئته.. ولا يحاولون منعه من أن يضرب رأسه بالبرطوش.. أو يقطع في نفسه كف صاموتي.. بل كانوا يقولون له: حرام عليك اللي بتعمل فيه دة.. يا عمي مش كدة.. والنبي خلاص.. يا راجل حرام عليك.. أرحم نفسك شوية.. ثم ينتبهون لجموعنا الغفيرة الضاحكة حولهم.. ويثور أحدهم في جمعنا المتحلق.. إيه؟. في إيه؟. كل حد يروح لحالو.. ثم نتفرق.. وعبدالمقصود يتنهد كالطفل.. ويصمت برهة من الزمن.. ونحن نتمطي علي فرشنا.. ونكاد نغفو.. ومن حيث لا نعلم يأتي الصوت كالصاروخ.. يا خراب بيتك يا عبدالمأصود ..هئ هئ هئ.. ونحن نحاول النوم دون جدوي.. وبعض أهله يصيحون فيه.. يخرب بيتك.. مش عارفين ننام.. وفي الصباح تم الإقتراب من عبدالمقصود.. لنجد أن عيونه.. ومن شدة البكاء.. كانت كما قال عنها الشاعر: ما قوبلت عيناه إلا ظنتا تحت الدجي نار الفريق حلولا.
فتسخط القلب أن يكون في القلب شيء على الله عز وجل من السُّخط .. فقد حكي لي من أثق به.. أن أحدهم كان قد أرسل إبنه من الخرطوم إلي إحدي القري المجاورة للغابة في إجازته السنوية.. وتشاء الأقدار أن يغرق هذا الإبن في حفير أو في النهر.. لا أذكر علي وجه الخصوص.. وبعد أيام جاء والده إلي مكان غرق إبنه.. وجعل ينظر الي أعلا.. وكأنه يخاطب الله سبحانه وتعالي.. والعياذ بالله.. قائلا: مالك ما بتشوف إلا ولدي؟ .
والإنسان عندما يصاب بمصيبة، فإن له أحوالاً في تقبل تلك المصيبة، إما بالصبر وحبس النفس عن الجزع، والرضا، والشكر.. وإما بالعجز والجزع، .. كان في منطقتنا شخص مشهور بنقل الأخبار السيئة.. وتحس أنه يجد متعة في ذلك.. فما أن يراه الناس قادما تجاههم.. إلا وتجد السنتهم تتعوذ.. يا ساتر.. يا ستار.. يا رب أستر.. يا ربي الحاصل شنو؟. وبعضهم لا يستطيع أن يصبر حتي وصوله اليهم فيصيح... يا فلان المات منو؟.. فيجيب والإبتسامة تعلو وجهه... والله ناس فلان ديك جاءهم خبر.. ولدهم مات في حادث حركة.
كان الكل يتعوذ من رؤيته.. ومن هذه الحالة.. آليت علي نفسي وعاهدتها... الا انقل خبرا سيئا ما دمت حيا.. فقط انقل الأخبار المفرحة...وفي سنوات لاحقة كنت أعمل في وكالة للسفر والسياحة في دولة الكويت... ولا أريد أن أقول.. أن مكتبي كان في الواجهة السكرتارية..عشان ما تقولوا عاوز أنفخ ليكم نفسي... أقول أن تربيزتي كانت في المدخل... وكثيرا ما ارفع التلفون.. وكان من عادتي أن أقول لمن يريد التحدث الي صاحب المكتب الكويتي.. او مدير المكتب الفلسطيني.. أنهما.. أو كلاهما.. في إجتماع ..أدينا تلفونك .. ممكن يتصلوا بك لاحقا .
وفي أحد الأيام ارفع التلفون.. ويسألني ضابط نجدة المرور.. عطني أبومشاري.. قلت له إجابتي المعهودة.. قال: روح بلغه أن منيف إبنه طاح في حادث علي الدائري..عندها تيقنت أن منيف ذو العشرين عاما.. قد أصبح في خبر كان منصوب.. لأن حوادث الدائري السريع كلها قاتلة.. قلت له: خليك لحظة علي الخط.. وأشرت إلي المحاسب وهو عراقي الجنسية.. يا أستاذ جاسم..عندك مكالمة مهمة.. وخفت أن يرجع المكالمة لي.. إذا علم فحوي الخبر.. فاسرعت ودخلت الحمام.. وواريت الباب قليلا لأنظر كيف يتصرف.. فما كان من جاسم إلا أن عدل عقاله.. وقام .. متجهم الوجه.. وطرق مكتب صاحب الشركة.. وأخبره الخبر.. وتأكدا من الضابط ..أن منيف قد إنتقل الي الدار الآخرة..ويا دوبك أنا جيت مارق..ويغادر المدير.. ومعه صاحب المكتب وهو يردد, لا حول ولا قوة إلا بالله, إنا لله وإنا إليه راجعون.. لم أري بكاءا أو عويلا.. وأعتقدت أن الوكالة ستدخل في إجازة أقلاها شهر.. إن لم يكن عاما. (في الفريق.. كان ماتت مرية ذليلة.. يرفعوا للسنة.. العرس الدخلتو الليلة). وفي اليوم التالي تم دفنه وداوم الجميع
وعلي الإنسان أن يتذكر قوله تعالي: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ...وأن يسأل نفسه.. علي ماذا سيحصل إذا جزع ؟ سوف ينال غضب الله.. وشماتة الناس ومقتهم.. وذهاب الأجر..ثم لا ترتفع عنه المصيبة.. ولا ينصرف عنه المحتوم ..وأخيرا كنت في زيارة لأمريكا قبل سنوات.. ونزلت ضيفا علي صديقي من أبناء شمبات.. وفي أحد الأيام.. طلب مني أن ارافقه لتعزية احد الطلاب.. في وفاة والده.. كان قد وصله الخبر في الليلة السابقة ..طرقنا الباب تمام العاشرة صباحا. وفتح لنا.. وكنت أتوقع أن أري عيونا ساهرة.. ودموعا جارية ..وجفون منتفخة.. ولكني وجدت شابا في نهاية العشرينات من عمره.. تبدو عليه آثار النعمة.. وهو يمتص السيجارة مصا.. وينفث دخانها يمنة ويسرة..قلنا الفاتحة.. فامسك السجارة بشفتيه.. وأغمض عينه اليسري قليلا.. ليتفادي الدخان المتصاعد علي وجهه.. ولم تتحرك شفتاه بالقراءة..يعني بالواضح لم يقرآ الفاتحة علي والده.. وبعد أن إنتهينا من قراءة الفاتحة جلسنا.. وساد الصمت قليلا.. وإبتدرته قائلا.. البركة فيكم.. وشد حيلك..كل نفس ذائقة الموت.. وادعو ليهو ربنا يرحمه.. تخيلوا ماذا كان رده؟ أقسم بالله أنه قال بالحرف الواحد: ( غايتو أنا لمن وصلني الخبر دة.. الله ذاتو طلع لي من نفسي.. وبقول ليكم عديل كدة.. تاني الله دة.. أصلو.. ما عندي معاهو علاقة).
يارب نديهو كف ؟0 هل نضحك؟ أم نبكي