السقوط الثاني للإنقاذ : عندما " يحاسب " المفسدون المصلحين في السودان
السقوط الثاني للإنقاذ : عندما
السعي لإصلاح نظام فاسد من قمته .. أشبه بالحرث في البحر
10-09-2013 03:03 PM
في مؤتمر نظمناه هنا في الجامعة الأسبوع الماضي عن معوقات الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي وأزمات الثورات العربية، أثيرت المسألة السورية وفرص نجاح مؤتمر جنيف 2. فعلق أحد الأكاديميين السوريين المرموقين قائلاً: إن أي سياسي معارض يقبل المشاركة في مؤتمر جنيف ينتحر سياسياً، ولن يكون له بعدها أي قبول لدى الشعب السوري. وهذه المقولة تلخص حقيقة أن سقوط الأنظمة لا يؤرخ له بانهيارها الحتمي وهلاك رموزها، بل هو سابق لذلك بكثير. ولعل أبرز علامات سقوط أي نظام تظهر عندما يصبح الاقتراب منه مهلكة، ويسارع أخلص أنصاره للتبرؤ منه.
ولا يعني هذا أن بعض الأنظمة ‘الساقطة’ لا تجتذب الأنصار، فالذباب يتحلق حول الجيف. وقد تساقط على جيفة نظام الإنقاذ السوداني ذباب كثير في السنوات الماضية، خاصة في حقبته النفطية التي فتحت شهية طلاب المنفعة. فبعد أن تخلى النظام عن دعاواه الأيديولوجية، لم تعد هناك أي تكلفة سياسية للانضمام إليه، مع وجود منافع آنية كثيرة. وفي نفس الوقت فإن النظام كان متلهفاً لتلقف أي عرض للدعم السياسي، مهما تدنت قيمته. فإذا انشق ثلاثة أفراد عن حزب لم تكن له قيمة أساساً، فإنه يحتضنهم ويغدق عليهم العطايا والمناصب، ويعلن انضمامهم إليه نصراً مبيناً، ضعف الطالب والمطلوب!
من هنا فإن إصدار الرئيس السوداني الفريق عمر حسن البشير الأسبوع الماضي قراراً (بصفته رئيساً لحزب المؤتمر الوطني ‘الحاكم’) بتشكيل لجنة محاسبة لأعضاء في الحزب على خلفية مذكرة تطالب بخطوات إصلاحية في الدولة، يعتبر واحداً من أوضح مظاهر سقوط النظام القائم وترديه نحو الهاوية السحيقة. فعندما يصاب نظام بالذعر من توقيع بضع عشرات من أعضاء الحزب، فإنه يعلن قرب نهايته. هذا خاصة وأن المذكرة لا تطالب إلا بما يساعد النظام على تطوير نفسه وتجنيب الحزب، قبل البلاد، كارثة محققة. فهل هذا لأن الرئيس يعلم أن غالبية أعضاء الحزب والحكومة، فضلاً عن المعارضين، هم من المؤيدين لهذه الأفكار، مما يستوجب المسارعة بـ ‘ردع′ هؤلاء حتى لا يتبعهم أخرون؟
إلا أن ثالثة الأثافي هي اختيار رموز الفساد في النظام لمحاسبة الإصلاحيين. فالأشخاص الذين تم اختيارهم إما نكرات وإمعات، وإما هم يمثلون وجه النظام ‘القبيح’، أو بالأحرى وجهه الأقبح. على رأس هؤلاء رئيس المجلس الوطني أحمد ابراهيم الطاهر. فالرجل مفروض فيه أن يكون على رأس السلطة التشريعية التي تنوب عن الشعب في الرقابة على الحكومة، والمكلفة سن القوانين التي تحمي حقوق المواطنين. وكان من المفترض، على أقل تقدير، أن يطالب بعرض القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة مؤخراً على البرلمان لإجازتها، ولو شكلياً كما يحتم الدستور والقانون. وأحمد ابراهيم الطاهر رجل قانون ينبغي أن يكون أول من يلاحظ أن الحكومة خالفت قوانينها، وينبه إلى ذلك. ولكن الرجل اختار، بالعكس، أن يكون أداة الحكومة لا الرقيب عليها، وواحداً من كوادر الحزب، لا ممثلاً للشعب. ولهذا تم اختياره لهذا المنصب تحديداً لكي يؤدي هذا الدور المخزي.
ويبدو أن الرجل قد اختار أن يبيع ضميره بثمن بخس دراهم معدودة، كما ظهر عندما أثار الرجل ضجة كبيرة في أغسطس عام 2011 بعد أن نشر بروفيسور الطيب زين العابدين مقالاً ذكر فيه أن راتب الرجل كرئيس للمجلس بلغ 31 ألف جنيه سوداني، وهو ما يعادل راتب ثلاثين طبيباً. اتصل غاضباً بالصحيفة طالباً نفي الخبر، وعندما طلب منه توضيح حجم مرتبه رفض ذلك. ثم هاتف بروفيسور الطيب، واتهمه بالكذب، وهدد بادخاله السجن إن لم يتراجع. تحداه الطيب عندها أن يواجهه في ساحات القضاء، وهدد بأن لديه وثائق تكشف أن ما يتقاضاه الرجل أكثر بكثير، فتراجع وصمت.
فالرجل يرمز إذن إلى كل ما هو فاسد ومفسد في النظام: عطل المجلس عن أداء دوره، ورضي، وهو رئيس السلطة التشريعية التي ينبغي أن تكون فوق الحزب والحكومة، أن يعمل في لجنة حزبية تحكم في صراع بين أجنحة النظام، فحط من مقام منصبه بعد أن انحط بشخصه وسمعته القانونية إلى حضيض لم نكن نعتقد أن دونه حضيضاً.
معظم بقية أعضاء اللجنة من الإمعات أو أئمة الفساد يمثلون وجه النظام القبيح في تجليات أخرى. من هؤلاء على سبيل المثال، حسبو عبدالرحمن، الذي تولى زماناً ملف الشؤون الإنسانية في الحكومة، فكان تأويله لمهمته أن يكون عين وأذن الأجهزة الأمنية على من يضطلعون بالعون الإنساني. وقد صرف جل جهده إلى التعويق والتضييق على المضطلعين بإغاثة الملهوف. فهو كما يقول المثل السوداني، لا يرحم ولا يترك رحمة الله تنزل. فلم نشهده يوماً ينبه إلى مآسي المحرومين وضحايا الحروب، ومن تقطعت بهم السبل من المستضعفين من النساء والولدان. بل بالعكس، فإنه وشيعته إذا ظهروا فإنما لنفي وجود اي حاجة، هذا مع العلم أن غالبية السودانيين في هذا العهد، حتى خارج مناطق الحروب، اصبحوا مستحقين للإغاثة. ولكن يبدو أن صاحبنا اختار أن يكون مثل تلك المرأة التي دخلت النار لأنها لم تطعم قطتها ولم تسمح لها بالبحث عن طعامها.
كلا الرجلين إذن ميزا نفسيهما بخاصية واحدة، وهي الهمة في إفساد المؤسسات التي أوكلت إليهما، وتحويلها لعكس الغرض الذي من أجله قامت. فالأول حول البرلمان من صوت للشعب إلى أداة في يد النظام، ومن جهاز رقابة إلى جهاز تستر على الفساد والاستبداد، ومن مؤسسة حاكمة ومحترمة إلى أداة خاضعة ذليلة تفتقد كل كرامة.
أما الثاني فقد حول العمل الإنساني إلى عمل لا إنساني، وحول الجهاز المفترض فيه دعم وتيسير العمل الإنساني إلى جهاز تعويق له. وليس لي علم بكم استفاد الرجل من أداء هذه المهمة القذرة، ولكني أكاد أجزم بأن أي تحقيق سريع سيكشف أن الرجل ‘أغاث’ نفسه بما شاء الله له، على حساب الجوعى والمحرومين، وأن في رقبته أرواح لبشر كثر (وليس لقطط)، ماتوا لأنهم حرموا الماء والغذاء أو الدواء في حينه.
هناك إذن رمزية كبيرة في هذا الوضع المقلوب الذي يوكل فيه رموز الفساد في الحزب (والحزب كله فساد، من قمته إلى قاعدته) لكي يحاسبوا من يدعون فيه إلى الإصلاح! فهذا أشبه بتصرف عصابات المافيا حين ترسل بمجموعة ‘التصفيات’ للتخلص من الخارجين عليها، والتائبين من مشاركتها الإثم.
وهنا لا بد أن أعبر عن تحفظاتي على منهج ‘إصلاحيي’ الحزب الحاكم، وعلى رأسهم د. غازي صلاح الدين. فأنا لا أشك في إخلاصهم وحسن نياتهم، ولكن السعي لإصلاح نظام فاسد من قمته، ومن داخل هذا النظام، هو أشبه بالحرث في البحر. ذلك أن فلسفة الإصلاح من الداخل تعني ضرورة اقناع قيادة الحزب بتبني نهج الإصلاح وتنفيذه بهمة وإخلاص، أو إقناع القاعدة بالالتفاف حول الإصلاحيين وبالتالي اختيارهم كقيادة. وكلا الأمرين غير متاح داخل حزب المؤتمر الوطني. فالحزب هو في نهاية المطاف مجرد ديكور لنظام أمني قابض، وأداة لن يسمح باستخدامها للانقلاب عليه. ولعل ردة الفعل العنيفة تجاه الإصلاحيين ابلغ دليل على أنه من غير المسموح حتى مجرد التعبير عن رأي مخالف. ولم يكن د. غازي صلاح الدين يحتاج إلى هذه الصدمة ليدرك أن كل طريق إصلاحي من داخل الحزب هو طريق مغلق. يكفي أن محاولته المتواضعة للترشح لأمانة ما يسمى بـ ‘الحركة الإسلامية’، وهي كما أسلفت اشبه بـ ‘النوافذ الإسلامية’ التي تقوم بعض البنوك الربوية بفتحها لجذب العملاء المتعففين عن أكل الربا، قمعت وحسمت باشرس ما يمكن. هذا بالرغم من أنها كانت ستنجح في تحييده وتحويله إلى أداة ‘إسلامية’ للحزب، مثلما أصبح الطاهر أداة ‘برلمانية’، وحسبو أداة ‘إنسانية’. فمهمة زعيم الحركة ‘الإسلامية’ هي ايضاً التصرف بنقيض ما تمليه قيم الإسلام، واستغلال الدين لخدمة الفساد والإفساد. ولكن يبدو أن القوم كانوا يشكون في ‘إخلاص’ الرجل، ويخشون أن يأخذ مهمته بجدية أكثر من اللازم، فيحدث ما لا تحمد عقباه.
مهما يكن فإنني أعتقد أن أي محاولة لإصلاح هذا النظام من داخله، وتنظيفه عبر الغوص في وحله، لن تحقق أي نجاح، إلا إذا تحولت إلى ثورة للقواعد تطيح بالقيادات. ولكن هذا لن ينجح بدون تعاون من قطاعات من الجيش والأجهزة الأمنية. ولعل في القرار الذي اتخذ ضد ‘الإصلاحيين’ تمهيداً على الأرجح لطردهم من الحزب، ما يفرض على هؤلاء حسم خياراتهم، والانضمام إلى بقية طوائف الشعب في معارضة هذا النظام والعمل على إسقاطه.
د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[b][/b]