( زينب أم الحسن ) الفصل 17
زينب ساهمه ... تـَختَرق الجُـدُر .. تـُحدق بعيدا .. تُحلقُ عاليا .. حاضرة الجسد غائـبة الوعي لم تنتبه لمن أقترب رغم أنها في إنتظـاره بأنـبل المشاعر .
المكان الذي زحف مبتعدا عن الشمس يزحف مقتربا منها الآن صار علي بعد ثلاث ساعات من الشروق ولا يكل ....
إحترم عوض النور غيابها فجلس بجوارها صامتا يُحدقُ قريبا يُحلقُ قريبا في حضور تام... شهران علي زواجهما ويراها لأول مره بهذا الوضوح الجمال البهاء الوقار السناء الذي يجذب يبهر يقهر يأسر كل شــئ ...
يراها وهو ليس من محفزات السلوك اللحظي عندها الذي يشكل مُحَيـاها ويدير ويصوغ تناغم بقية أعضاء الجسد وملامحـــه تكلفا أوتجملا ... بل علي سجيتها ليس في شعورها سوي زينب وحيـــدة تجـتر ماضي عريق للانسان لم تكن جزءا منه ..
عوض النور يمعن النظر دون كوابح الحياء وإدعـــاء الزهد تكلفا اوتعاليا لإعتبارات السن الوظيفه الرجوله وغيرها.. إستشعر حضورا طـــاغيا لطاقه روحانيه عظيمه تزحم الفراغ وتحتويهما معا طاقه مبعثها تلك الروح السابحه بعيدا.... لســبب ما تذكر العبيد ...
خاف أن يفزعها فخرج بهدوء كما دخل الصاله حيث تســـترخي علي كرسي هزاز وفي حضنها كتاب يحاور بعضها بعضا وتتسائل : ( هذا الارث من الابداع اللغوى و النبل والمروءه والشهامه لم لا نتمثله ولا يقهرنا لنتشبه بهم ..؟ ! حاضرنا فقير كالح لا يستحق أن يرتبط بماضي غني باهي مترف بالابداع و القيم الباهره.. أهملنا وتجاهلنا إرثا عظيما ولم نترك لاحفادنا سوي القناطير الفقيره الكالحه من الذهب والفضه والفسيفساء ) ...
زينب تبحر وحيده في روعة الاحداث والصور ونمازج من السلف تفقدها الاحساس بالبيئه المحيطه ... وعوض النور يتوسط الصاله ثم يخرج مدركا أنه ليس عوض الذى دخل قبل قليل ...!
أحدث من الجلبة المتعمده ما أعاد روحها الي حيث تجلس فنهضت وأستقبلته عند باب الصاله ...
- إنت صاحيه ليه ... الساعه تلاته ؟
= صحيت قبل ساعة .. إنت أتأخرت كتير ...
- لجان ترقيات وتنقلات كبيره في الشرطة يمكن تستمر شهر...تعودي نومي ...أحيانا يكون العمل حتي الصباح ...أخذت منه الكاب وملفات ووضعتها علي المكتب وناولته ملابس النوم ...
عندما خرج من الحمام كان علي المنضده كوب عصير وكوبان من الشاي وقبل أن يجلس ...
- الاولاد كيف بعد الرحله الطويله... طبعا حركة واتصالات بزملاهم والجيران .. وعاملين دوشه كبيره ..مش كده ...؟
= فعلا لكن سلمي معاها بنات خالته ( وداد) شــقاوة شديده البنيه الصغيره ( فرحه ) حلوه شديد بقولوا تشبه المرحومه ( سوسن ) ومعاهم الشول .... لكن سمير وسامي نايمين من المغرب ...
- والحسن ..؟!
= الحسن رجع بعد الضهر الثوره وقال مسافر الغابه الصباح لانو سمع أنو عتمان ود عمو جا الخرطوم قبل اسبوع يظهر أبوهو عايز يشوفو ..؟
- إن شالله خير ... في حاجه ؟ ... بس ما يكون مريض ..؟
= والله ماعندي فكره قال برجع بعد يومين تلاته ...
- كان يمشي معاهو سمير او سامي علي الاقل يشوفو جدهم النور = الاولاد تعبانين من سفريه القاهره عايزين يرتاحو ويتونسوا مع ألاصحاب ويتسامرو مع اصحابهم بذكريات الرحله وبعدين الحسن ماعندو مشكله ...الطريق آمن ....
- ما حوجة حراسه او رعايه .. التعدي البدني إنحسر ويتواري نهائيا ...الآن التعدي فكرى وروحي وأخطر واشمل ويهزم أحيانا كثيره من نعتمد عليهم في حمايتنا الماديه ...
صامته همت أن تتكلم لكنه استرسل قائلا :
- تعرفي يا زينب الأُســر محتاجه لي روحك وفهمك للحمــايه من المخاطر و دور الأب ينبغي أن يتغيير ... آفاق ونظريات وفتوحات عظيمه باهره متتاليه في مفاهيم التربيه ووسائل الرقابه والتوجيه تسموا بالابناء وتحترم ذواتهم ... الضرب والشتم والتوبيخ كلها لم تعد حتي في ذيل الخيارات ... العقاب البدني إرث بشري مخجل .. من يبذل الحب والعطف والاحترام أول من يستمتع بجدوي بذله وبحلاوة ثماره سواء للاسره أو للغرباء ...وهو أول من يتفيأ ظلاله الآمنه ... والبخيل بالمشاعر الطيبه غبي لان الخير يربو بإنفاقه ويكتنز بقدر ما ينهل منه الغير ... البذل والعطاء متعه وغرس طيب وإن كانت لجاحد ... وأنت قلتي في حفل الغابه عن دور الام والاب الكثير ... الثرثرة دي كلها عايز أسئلك أنا جيت داخل ووقفت خمسه دقائق وأنت سارحة بعيد جدا جدا وخرجت تاني وإنت ما شعرتي بدخولي ولا بخروجي ..كنت وين !؟
= أنا كنت وين ولا الكلام دا كان وين ..؟ أول مره اســمعك تتكلم بالطريقه دي ...؟!!.
- ما جات المناسبه ...
= الكلام الجميل محتاج مناسبه ؟؟
لازم نتعمد ونختلق المواضيع مع الأولاد عشان يعرفو وجهة نظرنا ونسبق الاحداث والمواقف المحرجه نحن ما عايزين نمتحن اولادنا نحن عايزين ومن واجبنا ندلهم علي السبل الآمنه للاهداف النبيله ....
- السؤال مازال قائم كنت سارحه وين ..؟
صمتت وهي تمد اليه الكتاب ..
مد يده التي سبقتها نظره سريعه ثم رفع عينيه قائلا :-
- قريت الكتاب وإستمتعت جدا لكن لم أطلع بنفس النتيجه إنت بتتحدثي عن إرث المواقف النبيله و القيم العظيمه المتا حه للجميع رغم أننا شركاء في الميراث يمكننا أن يأخذ كل منا كل التركة وياخذ الاخرين ايضا كل التركة دون نقصان او غبينه فهي اعظم ما ترك الإنسان من النعم ولكن هذا الميراث هو أيضا أكثر شئ زهد فيه الانسا ن المعاصر كما لم يزهد في شئ من قبل ؟؟... تحليلي صحيح !!
= نعم نحن عاجزين عن الارتقاء وتقديم ما هو اسمي من القيم والمواقف فلنحافظ علي ما تركه لنا الاجداد و لماذا لا نستلم التركة ونديرها ونبدء من حيث إنتهوا ... ؟؟!
- رأيك شنو نواصل الصباح ... الجمعه فرصة طيبه للحوار وفي حضور الورثه القصر وطبعا أنت خير وصي ... بالمناسبه كلمي الحسن ما يسافر ولا يعمل حاجة كبيره ومهمه إلا يكلمني ونتشاور فيها مع بعض أولا ...
= الحسن ..؟!
- نعم الحسن مستغربه ليه ... بالمناسبه كنت سعيد ومستمتع بفرض رعايتي عليهو من نفسي وانو يكون في درجة سمير وسامي .. لكن بعد جواب أبوه أصبح التطوع واجب وفرض وح أكون أكثر إستمتاعا ورضا بالتكليف ...
= جواب شنو ..وتكليف شنو .. ؟!
الصباح الصباح ... شوفي الساعه كم ...؟ .
الساره ساهمه عندما أشرقت الشمس وسالت علي الجدار الشرقي لحوش العبيد حتي تسربت من النوافذ ... تسند ظهرها للحائط تـَتسور بعقلها وبصرها جِدار الحوش .... تُحدق قريبا تتأرجح مع اغصان المسكيت ... تُحلقُ فوق حواشة العبيد تبحث عنه بين اشجار النخيل ... فكست الشمس باب السنط بلون ذهبي وكذلك عقد السوميت الثلاثي الذي يتدلي من جيد الساره المكتظ ... عندما تزينت به لاول مره ضحك العبيد وردد أمامها أبياتا للشاعر عالم عباس النور ...
( أيها القادم من ( درجيل )هيجت أسايا
( ثم كيف السـُكسـُك المنظوم في صدر حبيبي ...
( أفما زال كما كان علي الجيد الغزال ...
( ذي القوام الفارع المياس كالبان إنثناء
(كلما مرت عليه الريح مال ....)
المكان يقترب من الثامنه صباحا ... والتيمان يتسلقان جوالات البلح من جهة ويهبطان في مرح من الاخري والصغير يترنح في مسعاه يريد أن يبلغ مكان اخويه يرفع يديه لهما ولكنهما في شغل عنه والساره كذلك .... حاضرة الجسد غائبة الوعي لم تنتبه لمن أقترب رغم أنها تتمني أن يعود الي الدار ففي إنتظـاره في خوف وتوجس شديد ين ..
- صرخت أنت منو ... تحفزت .. خطفت صغيرها وهمت بالدخول تطلب ثوبا تتلفحه ولكنها تسمرت والتفتت بنصفها الاعلي عندما بلغ أذنيها هتاف التيمان :
- ( أبوي جا أبوي جا ..)
منذ شهرين وعتمان بعد صـــلاة الظهر يمر علي دار عمه يأخذ التيمان الي أبيهما في الحواشه حتي صلاة المغرب ويعود بهما فكانا علي موائمة ومعايشه للتغيرات التي طرأت علي ملامح وصحة العبيد شيئا فشئ خلال الشهرين الماضيين ... لحيه كثيفه وشعر الرأس يتدلي يغطي أذنيه وعيناه غائرتان فقد الكثير من وزنه وحيويته ونضارته ... ........شخص غريب يقتحم الدار ولكن لاشهاده افضل من هتاف التيمان ( أبوي جا أبوي جا ..) إنحني وإختطفهما بسرعة ليمتص إندفاعهما وواصل سيره نحو الغرف حتي بلغ الواجمه المذهوله فمد يده ومسح علي راس الصغير وهي تحمله في جنبها دون أن يراها إنها غير موجوده وكأن الصغير معلق في الهواء ... ثم واصل حتي بلغ غرفته وأنزل التيمان علي السرير وفتح الخزانه أ خرج منها ظرفا ودفترا قديما وبعض المال ثم خرج يتبعه التيمان الي المضيفه لم تفق الساره من الصدمه إلا بمقدار ما مكنها من الجلوس علي حافة السرير ... وبعد أن إجتازها للمرة الثانيه نهضت واسرعت تصلح من هيئتها ثم اندفعت نحو المطبخ ... تتخبط حتي خرجت بصينيه القهوه حملتها الي المضيفه الخاليه والتيمان فوق جولات البلح يصعدان من ناحية وينزلقان في مرح من الناحية الاخري ...!!
بينما العبيد يمد يده اليسري ويقطف من ثمار المسكيت وهو ينعطف شرقا نحو الحواشه وقبل أن يندس فيها ويغيب ترجل أمامه النور جد الحسن وتعانقا طويلا دون كلمات إلا تلك التي سقطت من عين العبيد .... إستدار العبيد سريعا ليداري ... إستدرك النور الموقف فإستدار يسأل النفس ..لماذا نبكي معا
- هل الحزن حكرا علي النساء...؟
- ما العيب في عين رجل تدمع !
- هل ما تهمس به المجالس أن بالعبيد مس
- ما الذي ينخر في جسد وروح العبيد هكذا ؟؟!
- الحسن أم الساره أم زينب أم أن ما ينخر في باب السنط له قرين ينخر الروح أيضا أم أن العبيد ينخر في روحه وجسده !!
واصل النور حواره سيرا علي قدميه وحماره يتقدمه يقطف من نال الجدول ما تيسر له في طريقه ..
رفع النور يديه والقي التحيه علي سعيد احمد نقدالله الذي دعاه للشاي لكن النور شكره وواصل وعبر المسكيت علي قدميه يفكر ....؟!.
بعيدا هناك شرق حوش ود أورحمد وعلي تل الرمال يقف بكس وحوله شباب يتحلقون حول احدهم يتبادلون عناقه ... شيئا فشئ يستبين النور ملامح السليك ...
مازال يحدق ويقترب وبعد خطوات قفز قلبه الي هناك يسبقه ويندس بينهم ينتزع منهم الحسن و يعانقه ...
يبدو أن الحسن في طريقه الي الحواشه حيث يعتكف أبيه فهل زينب والشول في حوش الدار الآن حيث تعتكف الاشواق والزكريات وتعانقان الطاعم وخوجلي ..؟!