بسم الله الرحمن الرحيم
المهجر والوطن
( 4 )
الهجرة القسرية فى السودان - جرح الوطن النازف .
البشرى عبد الحميد *
أدهشتني أرقام هجرة الأطباء السودانين إلى الخارج بشكل خاص اضافة الى تزايد أعداد المهاجرين من السودان طوعا وقسرا فى السنوات الأخيرة حدث منه استنزاف غير مسبوق للموارد البشرية والكوارد المؤهلة مما يجب الوقوف عندها كقضية وطنية هامة . لقد أدت ظاهرة الهجرة المتزايدة إلى قيام وطن مواز خارج الحدود هو سودان المهجر ، وفى الوقت الذي انصب فيه هم المهاجرين نحو توفير العيش الكريم ورعاية أسرهم الممتدة داخل وخارج السودان والاهتمام بتعليم ورعاية أبنائهم من الجيل الجديد بما يضمن الانتماء للوطن اتجه النظام نحو استنزافهم من خلال الجبايات وحرمانهم من حقوقهم الدستورية والقانونية ، مع الضغط على منهم بالداخل ممن يصنفونهم بالمارضين ليغادروا الوطن قسرا .
قد يستدرك علي البعض بأنه من الطبيعي ومن سنن الكون الهجرة من مكان لآخر أملا فى تحقيق الفوائد المتعارف عليها التي أشار إليها بالأمر(سافر) الإمام الشافعي معددا فوائد السفر . وهذا الاستدراك في محله بل نضيف إليه بأن الاسلام عرف الهجرة منذ بزوغ فجره حتى أصبح من السنن تشبها بأصحاب رسول الله ( ص ) الذين هاجروا للحبشة فى الهجرتين الأولى والثانية ثم هجرة الرسول ( ص ) إلى المدينة المنورة ، وكما ورد فى محكم التنزيل فان المؤمنون المهاجرون للجهاد فى سبيل الله أعظم درجة عند الله . قال تعالى ( إن الذين امنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ) . ويصح القول أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نص فى المادة ( 13 ) منه على حق كل فرد فى حرية التنقل واختيار مكان إقامته داخل حدود وطنه كما له الحق فى المغادرة لبلد آخر والعودة لبلده مرة أخرى وهذا الحق الانسانى هو ما ظلت تؤكده دساتير الدول وهو ما نص عليه دستور السودان الانتقالي لسنة 2005 فى المادة ( 42 ) منه إلا أن واقع الحال والممارسة وما يحدث من هجرة قسرية من بلادنا تكذب النص وتمشي على خطوطه الحمر نتيجة لممارسات النظام الذى لا يحترم سطرا مما كتبه فى وثيقة الحقوق بالدستور السوداني .
اننى لست ضد التنقل و الهجرة ذلك أنى ابن مجتمع تميز أهلها دون غيرهم من المجتمعات السودانية بهجرات داخلية وخارجية منذ أقدم العصور ولكن شتان ما بين الهجرات الطبيعية التي تتم بالإرادة الحرة وتلك التي تتم قسرا لإفراغ البلد من "اهلها ". ، فبينما تتعدد أسباب الهجرات إما بحثا عن ظروف معيشية أفضل أو استجابة لضغوط اجتماعية أو بيئية كما في الولاية الشمالية كما حدث في فترات زمنية مختلفة أو نتيجة للحروب كما الحال فى الجنوب ودارفور أو الفتن أيا تكن ، فقد شكلت سوء الأوضاع السياسية وانعدام الحريات واتجاه الحكومة الشمولي للتركيز على ما يضمن بقاءها من خلال القبضة العسكرية والأمنية و توجيه التوظيف والترقي باتجاه مواليها أسبابا ومضايقة الناس فى معاشهم أسبابا رئيسة للهجرة من جهات السودان .
أن أساس الأوطان ومحور حياة شعوبها هو ارتباط الإنسان بأرضه ووطنه ولذا يقال ان حب الاوطان من الايمان وهذا الحب للوطن ينمو ويترعرع فى ظل التعايش السلمى واحترام البشر لبعضهم و إقامة العدل الذي يعمق الانتماء والارتباط بالوطن ويجعل الانسان سعيدا بالزود عن حمى الوطن على نحو ما يقوم من واجب نحو دينه ويعتبر الموت مجاهدا فى سبيله من أعظم درجات الفداء . هذا أمر أكده القرآن الكريم والشرائع السماوية حين تم الربط بين حماية الدين والدار ولهذا يقر الاسلام باحترام الأخر الديني طالما لا يقاتل المسلمين فى دينهم ولا يعمل على إخراجهم من ديارهم مع التأكيد على عدم إعطاء ولاية الأمر لمن يقاتل المسلمين فى دينهم او يحاول أخراجهم من ديارهم كما ورد فى الآيتين ( 8 ) و (9 ) من سورة الممتحنة ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) . ولعلنا نستعيد من السيرة النبوية اللحظة التي أخرج فيها سيدنا محمد ( ص ) من مكة المكرمة وحزنه على ذلك وهو يقول والله انك لأحب الأرض إلى وانك لأحب ارض الله إلى الله ولولا أن اهلك اخرجونى منك ما خرجت ، لذا فانه من أصعب الأمور على الإنسان مغادرة الوطن مهما تكن الأسباب خاصة وان الهجرة تقود إلى واقع ربما تكون أكثر مرارة من والواقع المعاش ويصبح حال المهاجر كحال المستجير من الرمضاء بالنار.
إن ما يحدث من هجرة قسرية من السودان اليوم تعد جريمة إنسانية ، خصوصا إذا ثبت صحة التصريحات التي تفيد بالتخطيط المسبق لها. ولن يطول الوقت الذي تصبح فيه هذه المسالة قضية مزعجة للدول المستقبلة وقضية وطنية سودانية أساسية تضاف لقضايا الوطن الجريح المعلقة دون حل والتي تنفجر من وقت لأخر. إن التهجير القسرى إضافة لهجرة الكوادر المهنية ، تجعل من مسالة هجرة الإعداد الكبيرة كارثة وطنية وجرحا جديدا نازفا فى خاصرة الوطن . لقد اكتفى البعض بنشر التقارير الرسمية التي تشير إلى ان عدد السودانيين بالخارج يبلغ من ستة إلى ثمانية ملايين سوداني وهو ما يمثل حوالي إل 20 % من عدد السكان ، ولكن ورغم ان ذلك يعكس حجم المشكلة فانه ذلك لم يستدعي الاهتمام اللازم بهذه القضية ، ومن جانبنا ظللنا نتابع ما يصدر من تقارير بشأنها بدافع البحث والتقصي عن الحقائق حول الإعداد الفعلية للمهاجرين ومسببات الهجرة والحلول الممكنة له .
لقد أتيحت لي فرصة الاطلاع على تقرير أعدته رابطة الإعلاميين الاستقصائيين السودانية ونشرته فى موقعها الالكتروني بتاريخ 3 ابريل 2010 م . وفي ظل تضارب المعلومات حول الهجرة من السودان، رأيت انه من المفيد أن نقف عند بعض محتويات هذا التقريرالهام التي تطالب الرابطة بنشرها على أوسع نطاق . ورابطة الإعلاميين الاستقصائيين السودانية التي أعدت التقرير، كما ورد فى موقعها الالكترونى رابطة غير ربحية تعمل على إعداد التقارير وتعميم التحقيقات المستقلة فى قضايا وطنية تفيد المصلحة العامة وتجعل المؤسسات العامة أكثر قوة وشفافية و تخضع للمساءلة بهدف تجويد أداءها فى خدمة المنفعة العامة . وقد قامت الرابطة بإصدار تقريرها عن الهجرة القسرية من السودان استنادا على تقارير الأمم المتحدة باعتبار الهجرة قضية مصيرية وهامة للسودان ولمواطنيه. ان هذا التقرير يستحق القراءة المتانية و التحليل الدقيق والوقوف عند حقائقه المؤلمة ، إذ يبدأ التقرير بمقدمة تاريخية حول الهجرات فى السودان ويورد حقائق المأساة المفزعة التي يمر بها المهاجرون بدءا من لحظة الهروب من الموطن ومواجهة الموت والواقع المرير ثم مخاطر الطريق و السجون والمعتقلات والمعسكرات المقفولة على الحدود الدولية وانتهاء بالوصول إلى غابة الاضطهاد الديني والعرقي الذي لا يعرف سقف ولا نهاية حتى عند نهاية الرحلة التي تقف دون الوصول لمبتغى . إن التقرير يأخذ مصداقيته من معلوماته المستقاة مباشرة من قاعدة بيانات الأمم المتحدة لشئون اللاجئين ومنظمة الهجرة العالمية ، ويكفي المنظمتين رصانة وجدية أنهما تضمان أفضل الكوادر التي تبحث في شئون الهجرة على مستوى العالم.
ومن باب اهتمامي بهذه القضية وما هدفت إليه رابطة الإعلاميين الاستقصائية من الإسهام فى لفت أنظار المسئولين السودانيين وكل الجهات المعنية بهذه الكارثة الإنسانية وتوسيع دائرة المتابعين ووضع القضية فى مقدمة الاهتمامات الوطنية وأولويات مؤسسات المجتمع المدني وكل المهتمين بقضايا الهجرة فى السودان رأينا أن نقف عند بعض النقاط الهامة التي وردت بالتقرير على النحو التالي : - .
- إن عدد المواطنين الذين تشردوا قسرا فى الفترة من عام 1975 م إلى 2009 م بحثا عن الأمان خارج الوطن حتى وصلوا إلى جميع الدول بما فيها إسرائيل والصومال بلغ عددهم 11059036 وهو ما يبلغ نسبته 28 % من عدد السكان فى السودان حسب الإحصاء السكاني للعام 1997 م
- أن العدد المذكور يشمل فقط من تم اعتمادهم بواسطة الأمم المتحدة والدول المضيفة كلاجئين ولا يشمل المغتربين أو المهاجرين الاقتصاديين أو أولئك الذين لم يبت فى شانهم من المسجلين لدى سلطات الهجرة فى الدول التي يتواجدون بها كما لا يشمل النازحين قسرا من ديارهم داخل السودان .
- إن أعلى معدلات الهجرة القسرية حدثت فى عهد حكومة الإنقاذ إذ بلغ عدد المهاجرين فى الفترة من عام 1989 م إلى 2009 م 9858176 وهو ما يعادل 89 % من العدد الكلى للمهجرين قسرا و يمثل هذا العدد أربعة أضعاف من تم تهجيرهم خلال الحرب النازية فى أوربا والذين كانوا السبب فى إصدار قانون الأمم المتحدة للاجئين فى العام 1951 م .
- ما من دولة على الأرض إلا و بها مهجرون سودانيون من كوستاريكا إلى الصومال وهؤلاء موزعون على مائة وعشرون دولة على مستوى العالم .
- يورد التقرير وقائع مؤلمة وبعض الصور المحزنة التي نشرت فى صحيفة جورسليم بوست الإسرائيلية وتمت الإشارة بأنها لاحد حراس الحدود الاسرائيليين وهو يرافق اسرة سودانية تكبدت مخاطر عبور صحراء سيناء بحثا عن اللجوء والامن هناك وتظهر فى الصورة امراة سودانية تاخذ بيد طفلها الاكبر بينما يحمل الجندى الطفل الاصغر فى صدره وهو مدجج بالسلاح . اما الصورة الاخرى الأشد إيلاما ، فهى صورة لمجموعة من اللاجئين يتظاهرون فى اسرائيل احتجاجا على حرمانهم من حقوق اساسية يتمتع بها مواطنى الدولة العبرية.
- انه رغم ما يشاع من أن أهم أسباب النزوح حرب الجنوب ولكن السنوات التي تلت اتفاقية السلام في 2005م تنفي ذلك لأنها شهدت ارتفاع في وتيرة الهجرة القسرية .
- يشكك التقرير فى أن تكون حرب دارفور سببا فى رفع وتيرة الهجرة القسرية الخارجية لأن أغلبية الهجرة فى دارفور تشكل نزوحا داخليا. ويشير التقرير إلى أن التوترات التي شهدها الإقليم من صراعات قبلية حول الموارد قبل تلك الفترة لم تشهد نزوح جماعي للخارج وتركز على النزوح الداخلي وانه وحتى بعد الحرب فان عدد المهاجرين بالدول المجاورة لدارفور فى إفريقيا الوسطى وتشاد ومصر وليبيا بلغ 2172653 وهذا الرقم لا يتجاوز نسبته 22 % من نسبة المهجرين قسرا خارج السودان التى تشمل المهجرين من كل انحاء السودان بينما بلغ عدد النازحين داخليا فى دارفور 7 / 2 مليون شخص وانه اذا ما قارنا هذا العدد بعدد سكان دارفور فى العام 2003 م نجد ان 74 % من سكانه اما فى المهاجر او معسكرات النزوح وانه من خلال انطباع عام غير مستقصى فى هذه الدول وبشكل عام يمثل نسبة مواطني الإقليم بين جالياتهم اقل من 10 % بينما الأغلبية من الأقاليم الشمالية .
- أن غالبية المهاجرين قسرا هم من الشباب ومن المسلمين .
- إن استطلاع عشوائي تم فى بريطانيا ل 38 مواطن سوداني لجئوا لبريطانيا أوضح بان التضييق على الحريات العامة والدينية تأتى فى مقدمة أسباب الهجرة ثم تأتى مسالة الخوف على النفس والأسرة بسبب الانتماء السياسي ثم تأتى فى الدرجة الثالثة الأسباب الاقتصادية كمسببات للهجرة .
إن هذه المؤشرات الواردة بالتقرير تعكس حقيقة وحجم المأساة والمعاناة التي يواجهها مواطنونا من ذل ومسغبة فى سبيل الهجرة ليواجهوا فى بلدان الهجرة بوضع لا يقل سوءا عما عانوه فى وطنهم الطارد . هذا الوضع يعكس مأساة وطن تعمل حكومته على استنزافه من خلال الحروب والفتن والاقصاء السياسى ليفقد هذا الكم الهائل من القوى البشرية ، فإذا كان عدد المهجرين قسرا أكثر من احد عشرا مليونا وأضيف إليهم أولئك الذين لم يبت فى وضعهم من طالبي اللجوء والمغتربين الاقتصاديين والذين لا يقل مجموعهم عن خمسة ملايين شخص إضافة لاثنين مليون وسبعمائة نازح داخلي فى دارفور وحدها يتضح أن جملة السودانيين المشردين داخليا وخارجيا ويعيشون خارج مظلة الحكومة يقارب نصف عدد السكان .
إننا نشكر رابطة الإعلاميين الاستقصائيين السودانية على إثارتها لهذا الموضوع وتسليط الضوء عليه بصورة علمية واستقصائية باعتبارها قضية مصيرية وهامة لوطننا ، فإننا نوجه النداء لجميع المهتمين بهذه القضية من وطنيين ومؤسسات مجتمع مدنى للعمل من أجل حلها بالتعاون مع المنظمات الدولية الإقليمية المتخصصة من خلال إعداد الدراسات اللازمة واتخاذ الإجراءات العملية لمخاطبتها باعتبار أن الحفاظ على رأس المال البشرى هي أم القضايا الإستراتيجية لبناء ونماء الوطن .
* مستشار فانونى وكاتب
· جريدة الخرطوم العدد 7654 الاحد 17 ابيل 2011 م الموافق 12 جمادى الاول 1432