نصيحتي الأخيرة.. مع اعتذاري
بسم الله الرحمن الرحيم
وأنا في خواتيم مقالاتي وشهادتي في أهل الغابة, وإذ اتصفح هذا المنتدي, لفت إنتباهي شكوي البعض من الإنقسامات داخل جسم أبناء الغابة. مثلا أن يقوم ابناء غرب دنقلا بحري بإنشاء كيان خاص بهم, أو أن أبناء الغابة قبلي لا يتداخلون في البوستات التي يكتبها أبناءالغابة بحري. وفي الحقيقة أتساءل ماذا جري؟. من أين أتت هذه التصرفات الإنقسامية الدخيلة؟. كانت مدرسة الغابة يؤمها الطلبة من حلة وددياب وأبقسي مرورا بالمحطة والسعداب وحلة ودستنا وجبرونا والباجا وحلة السيد وكأنهم كلهم أبناء رجل واحد. الآباء متكاتفون من أجل مصلحة الغابة, وإستطاعوا أن يرتقوا بها. أما إنقسامكم إلي مجموعات, لا يفيد أبدا. فلو أنكم تكاتفتم وعملتم لمساعدة الغابة الأم, لكان أفضل من أن تحاول كل مجموعة صغيرة أن تساعد فقط الجهة التي تخصها.
فقد هوي التعليم والمستشفي إلي درك سحيق; كما أشار إليه ووصفه بعض كاتبي منتداكم هذا. مما يجعلني إعتقد أن شفخانة الغابة في عهد آبائكم' وتحت إدارة سيد أحمد الحكيم, وزملاؤه مصطفي الشاويش وحسن عالم كانت أفضل حالا من مستشفاكم الكبير هذا, وأن مدارس الغابة كانت من الأهمية والقوة والوحدة, رقم لا يمكن تجاوزه, مما يجعل سيد أحمد عبدالهادي يضع مدارس الغابة ضمن أولويات زيارته للشمال أواسط الستينات من القرن الماضي. فهل يا تري أن أسلافكم سيرضيهم ما أنتم عليه الآن؟. كل الذين مضوا من آبائكم قد تركوا بصماتهم في تطوير منطقة الغابة وتوحيدها, فهل ستكون بصماتكم هي تمزيق ما رتقوه.
أعلم علم اليقين, أنه لو حاول الخيرين إزاله هذه السحابة العابرة من الحواجز بينكم فلن يفلحوا. ولكن إذا تهيأت الظروف, وإجتمعتم في حوش كبير وجها لوجه وليست (وجهالوجه النميري). فسيحتضن كل منكم الآخر, وتصفو النفوس, دون التطرق لأية مواضيع إنصرافية. وقد شاهدت هذا, وعايشته بين بعض منسوبيكم والذي قرآت خبر وفاته في هذا المنتدي. وأسأل الله له الرحمة والمنزلة العليا في الجنة , اللهم أغفر له وأرحمه, ألا وهو فتحي الكشكشابي.
كنت قد إلتقيته وتعرفت عليه في مستشفي الكويت, عندما حضر خالي في زيارة علاجية, وكان فتحي ممارضا ومرافقا لأخاه الأكبر, وقد زرته في بيته لأول مرة معزيا في وفاة أخيه سالف الذكر, أسأل الله لهما الرحمة جميعا. كان منزله في منطقة السالمية, قبلة لكل أهل السودان, فقد كان مواصلا,ويعرف الكثير الكثير من المغتربين ومناطقهم, وعلي الرغم من كثرة معارفه وتداخلاته وتعاملاته, إلا إنني لم أشهد له أعداءا قط, فالكل يحبونه, وهو من القلائل الذين يمكنهم الجمع بين النقيضين من الأصدقاء . وكثيرا ما كان يزور صديقه محي الدين اليمني في منطقة تسمي الحساوي, وآنا أسكن بالقرب منها, ولهذا كان لي نصيب الأسد من زياراته; وهو الذي يمكن أن تطلق عليه قول الشاعر: وتهش عند لقائه ويغيب عنك فتشتهيه.
كان لفتحي قدرة هائلة علي إمتصاص الهجمة أو الغضبة عليه, وعنده قدرة خارقة في إثارة الآخر. ولن يستطيع أحد إثارته أو إغضابه, ولو إجتمعوا له. ولم أره غاضبا قط, طيلة المدة التي عرفته فيها, بل كان ضاحكا, بشوشا, ينشر الفرحة والسعادة بين ضيوفه ومعارفه, وحتي الغرباء الذين يلتقيهم لأول مرة. وتراه في قمة المرح خاصة عندما يغلب في الكوتشينة, وستري منه سنة بئيسة, أذا أخذت منه سيك. وبسهولة يمكنه أن يقنعك أنك خسرت, حتي ولو غلبته.
وفي إحدي الأمسيات وفي منزله, وبسبب الغلب, دار نقاش حاد بينه وبين أحد مواطنيه, يسمي إبراهيم شموم. كان شموم, الذي توحي لهجته, بأنه عاش كثيرا في مناطق الدناقلة, إذ أنه كان يذكر المؤنث, وتخونه التعابير في أن يجاري مكاواة فتحي له, ويحاول جاهدا أن يسخر من فتحي, دون جدوي, ويكثر من مناداة فتحي الخرخار الخرخار. وفتحي يضحك ساخرا. ويرد الصاع سبعة وثمانية. وحينما فشلت كل محاولات شموم في إغضاب فتحي, هاج وماج, وشتت الورق وقام كالثور الهائج مغادرا, حالفا إيمانا مغلظا ألا يعتب هذا المكان مرة أخري, وسيتجنب أي مكان يتواجد فيه فتحي. وحاولنا الإمساك به ولكن هيهات وهو يتفلت كالمارد, وغادر إلي بيته راجلا.
ومر إسبوع, ولا جديد في هذا الموضوع, ورأيت وأكراما لعلاقتي مع فتحي أن أصلح بينهما. زرت الأخ شموم للمرة الأولي, وعرفته بنفسي وما جئت لأجله, ولكنه لم يعرفني وهو معذور, ووجدت منه صدودا كبيرا, حيث أكد أنه لن يجمعه مع فتحي جامع, ولو أن فتحي دخل الجنة, سيختارهو جهنم طائعا مختارا لكي لا يجاوره أو يلتقيه. وتبرأ من الغابة التي جمعته به. وبعد مضي ساعة من الحوار العقيم, قلت له: يا شموم, تذكر أنك في غربة, ولو حدث لك شئ, لن تجد إلا فتحي الكعب دة. فقال: إنت قلت لي إسمك منو؟. قلت:عمر, قال: شوف يا عمر أنا كان مت. معروفا تسويهو فوقي. بس تتكلني( بتشديد الكاف). وتنزلني من العمارة دة. هناك في طرف الشارع تلقي عمود كهرباء بس أسندني عليهو وأمشي. ناس البلدية بيدفنوني.
تركته بعد أن يئست من إقناعه. ومر أسبوع آخر, وزارني فتحي, وركبت معه سيارته, وحكيت له ما حدث. ولم أشعر إلا وفتحي قد توقف أمام سكن شموم في منطقة تسمي الدعية. فقلت يا رب تجيب العواقب سليمة. ونزلنا وصعدنا الي غرفته. وجلسنا. وبعد هنيهة دخل شموم. وحينما رأي فتحي, جري نحوه, وإحتضنه مدة من الزمن. وأقسم بالله قائلا: يا فتحي أنا راقد في سريري دا ما أقوم منو, وإنت في بالي, وكنت جاييك بكرة. إنت يا فتحي أنا عاديهم ليك خمستاشر يوم ما تسأل مني مالك؟ ما عندك عربية ليه ما جيتني.
حمدت الله كثيرا أن الموضوع إنتهي في غاية البساطة, ودون أدني تدخل مني. ومن ثم أردنا المغادرة فإذا شموم يصيح: علي الطلاق بالتلاتة إن ما إتعشيتو ما تمشوا. وكان بالإمكان أن يتزحزح الجبل عن مكانه من أن يتركنا نغادر دون عشاء. وهو يودعنا, قال له فتحي أها حا تجينا ولا لسة زعلان؟. فصاح شموم: يا زول إنت ما بتفهم؟. أنا من الصباح قاعد أقول ليك في شنو؟. أنا ما قلت ليك كنت جاييك بكرة؟. ولا إنت ما دايرني اجي؟. وغادرنا ونحن نضحك قبل أن تقع معركة الشكرية والبطاحين.
هذه هي بساطة أهل الغابة وطيبتهم, ونفوسهم التي لا تحمل الحقد والغيرة. ونصيحتي لكم أن تجتمعوا وتكونوا يدا واحدة في كل شئ, وتتوحدوا في منتدي واحد. وجربو هذه الوصفة العلاجية, وإجتمعوا في مكان واحد أو تواصلوا عبر هذا المنتدي, وراسلوا بعضكم تعودوا لسيرة آبائكم. ولا تسمحوا لأحد أن يتدخل بينكم, وقد أكبرت في مدير منتدي رابطة أبناء الغابة هذا, حرصه علي خصوصية أبناء الغابه, وتفهمت وتقبلت رفضه لطلبي بالإنضمام لهذا المنتدي بصدر رحب وإعزاز.
وأخيرا, أقول شهادتي هذه عن آبائكم وأهلكم وموطنكم, وهي كلمة حق لست مجبرا علي قولها, لا أنشد بها شهرة, ولا أرجو من ورائها جزاءا ولا شكورا.
وفي الختام أسمحوا أن أطل عليكم عبر منتداكم هذا بين الحين والآخر, لأتعرف علي أخباركم, وأترحم علي موتاكم, وأدعو بالشفاء لمرضاكم, وبالتوفيق والسداد لكم لتسيروا علي ما كان عليه أسلافكم.
وإعتذاري عن الإطالة, والتهنئة لكم برمضان سعيد, وكل عام وأنتم بخير, وسلام عليكم.
عمر.