يوم أن بكت الغابة دما.. لا دموع 3
بسم الله الرحمن الرحيم
كما قلت لم أشهد إجتماعا هائلا لأهل الغابة إلا في ذلك اليوم من العام 1978 (إن لم تخني الذاكرة,لأن سنين تلك الفترة فد تشابهت علي كما البقر, وتجدني عاجز عن ضبطها بدقة ساعة كتابتي لهذا المقال). في ذلك اليوم كانت هنالك ثلاث مجموعات من البشر, المجموعة الآولي وعددها يفوق العشرين الفا من الأنفس. تضم عامة أهل الغابة وما جاورها من أهل القري, كانوا قد أتوا لحضور الإحتفال. وتضم المجموعة الثانية اعيان المجموعة الأولي, وهم يناقشون الأوضاع, وما تتطلبه مناطقهم من خدمات مع المرشح للدائرة, وهم يجلسون معه وحوله. أما المجموعة الثالثة وعددها في حدود الخمسين فردا, كانوا قد جلسوا وتحلقوا حول الراديو, ليبشروا الناس عند سماع خبر فوز المرشح; وكل منهم يمني نفسه, أن يكون هو أول من يزف الخبر, وقد كنت من ضمن هذه المجموعة. وبدأ المذيع قراءة النشرة, وبدأت القلوب الخفقان السريع, المذيع يقترب من ذكر إسم الفائز في الدائرة, وكان البعض يقهقه أو يتكلم بصوت عال, ويصيح أحدهم غاضبا, يا ناس أسكتوا, خلونا نسمع. فيردوا عليه هازئين: عاوز تسمع شنو؟؟ سماعك دة تحصيل حاصل, مضمونة ومبرشمة, مرشحنا فائز مية المية, عاوز تراهن؟؟. طبعا لن يجرؤ احد علي المراهنة لأن الكل ليس عنده مثقال ذرة من الشك في فوز المرشح, ولسان حالهم يقول الفوز أو الموت.
في ذلك الوقت, كنت قد عدت من ليبيا, بعد إغتراب فاشل, وفي زيارة إلي خالي بالشمالية, وجدت أن الإنتخابات قد حمي وطيسها. وفي احدي الأمسيات وصل إلي منزل خالي وفد من الغابة, علي رأسه حسن كيري أطال الله عمره, والذي كانت تربطه صداقة حميمة مع خالي يرحمه الله. وطلبوا منه أن يعطيهم سيارته البوكس, للإستعانة بها في المواكب والسفر, فقال لي خالي: يا عمر يا ولدي, أريدك أن ترافق البوكس دة, وما تنزل منو, وتحافظ عليهو, السواق دة ما يضغطوا شديد, وبعد يومين تلاتة, لو حسيت أنهم ما محتاجين ليك شديد تجي راجع. وبالفعل تحركت معهم, وبعد يومين من التنقل, كانت هناك ليلة سياسية في مدينة الدبة. ورأيت المرشح عبدالله كيري بعد مدة من الزمن, ولم تكن هيئته تختلف كثيرا عما إختزنته الذاكرة عن رؤيتي المتكررة له في السابق, فقد كان تاجرا في سوق الغابة القديم, وكان متجره في الناحية الجنوبية الشرقية من السوق (في الكورنة) ويفتح غربا. أول دكان علي اليمين نمر به ونحن ندخل السوق. وفي الناحية الشمالية الشرقية وفي نفس الصف كانت الطاحونة, وإعتقد أن صاحبها كان حمد الكشكشابي. يقابلها من الناحية الشمالية الغربية دكان عبدالله خواجة يفتح شرقا, وعلي يساره جزارة حسن كيري وحسن العجيل. وكنت قد رأيت هذا المرشح لآخر مرة, حينما خاطب الجمهور الذي إستقبل الرئيس جعفر النميري, وهو يزور الغابة بالباخرة, بعد قيام ثورة مايو مباشرة, مصطحبا معه الفنان عبدالعزيز داؤود والبلابل.
وتم تقديم المرشح ليتحدث, فأسرع يسعي, وإستلم الميكرفون, والقي خطبة لم أسمع بمثلها حتي من حملة الدكتوراة. وتكرر هذا المشهد في العديد من المناطق, ولاحظت أن هذا المرشح لا يقوم بالتحضير للخطب, وما أن يعتلي المسرح, حتي يفتح الله عليه بخطبة لم تتكرر فيها كلمة كان قد نطق بها في خطبة سابقة. وكانت خطبه من البلاغة والتركيز والحماسة ما يجعلني الآن نادما علي أن تلك الخطب لم توثق. وكانت تقابل هذا الوفد في أحايين كثيرة العديد من العقبات والمشاكل والمعضلات والتعنت, وكان هذا الوفد يقرر مجابهة هذا التحدي بما يناسبه من رد حاسم, وأحيانا بالتهور, لكن ما أن يتدخل هذا المرشح برأيه أو فعله أو قوله, إلا ونزل بردا وسلاما ورضا لكل الأطراف, وتحل المشاكل, ويحتضن الناس بعضهم بعضا, فقد كانت الحكمة تجري علي لسانه.
في إحدي الأمسيات سأله احد المثقفين قائلا: نرجو من المرشح أن يحدثنا قليلا عن مراحله التعليمية, وأي شهادات جامعية إن وجدت؟. كان السائل يقصد إحراج المرشح, وأن يسقط في يده ويتلعثم ويتعثر, أو أن يجعله يشعر بالنقص لتخبو جذوة خطبه. عندها أصبنا بالرهبة قليلا وبالإنزعاج, لأننا نعلم أن المرشح ليست لديه شهادات تعليمية , ولكن عج الحضور بالتصفيق والتهليل والفرح, حينما جاءت إجابة المرشح بصوت قوي, دون إهتزاز أو تردد قائلا: إن شهادتي هي لا إله إلا الله محمد رسول الله, ومط كلمة لا إله, رافعا إصبعه إلي أعلا, وتواري السائل خجلا بعد هذا الإلتفاف الكاسح والتصفيق, بالفعل أعجبت بهذا المرشح وبلاغته, ونسيت وصية خالي, وإندمجت في هذا الفيلم, حتي جاء ذلك اليوم المشهود.
في تلك الفترة تعطلت مصالح البلاد والعباد, وتحمل أهل الغابة أعباء هذه الوفود, إقامة وإطعام وترحيل. وعندما بدأ الفرز, ورأفة منه بأهله, ولكي يرفع عنهم هذا الضغط البشري, أقترح عليهم المرشح أن يغادر الغابة فورا عائدا الي الخرطوم حتي يجنبهم, الإفلاس والمزيد من الخسائر. ولكن كان تلبية هذا الإقتراح أقرب منه نجوم السماء, فقد رفضه أهل الغابة جملة وتفصيلا.
كان الجمع قد توافد إلي هذا المكان من أقصي حدود الدائرة, ووصلت وفود عدة من الخرطوم, معظمها من التجار وأصحاب المرشح, للمشاركة في هذا الإحتفال. وبدأت تهنئتة بالفوز وإنتهت, ولم يتبق وفد لم يقدم التهنئة. ومن ثم إمتد الصف لمقابلة المرشح, وتقديم طلبات, للمساعدة في حل بعض القضايا والمشاكل والإحتياجات. وكان خالي قد سلم من تلقاء نفسه طلب للمساعدة في حل مشكلتي إلي السيد حسن شقيق المرشح, ليسلمه للمرشح بعد أن تهدأ نشوة الفرح والفوز المتوقع. وتوافدت الذبائح حتي إمتلأ بها المكان, وصاح بعض الناس: يا جماعة أحسن نقوم نذبح, النتيجة مضمونة, ما تضيعوا الزمن ساكت. ولكن كان القول القاطع للسيد حسن كيري' لا ذبح إلا بعد سماع النتيجة.
وفجأة صمت الجميع, والمذيع يعلن فوز المرشح المنافس. وتحولت الوجوه الباسمة إلي وجوم, وإنهمرت الدموع دون أن يشعر بها أصحابها, والرؤوس منكسة إلي الأرض ,ودون وعي, ولبرهة من الزمن مرت دون أن يشعر بها هؤلاء الجالسون حول المذياع, فجأة صاح أحدهم بصوت كئيب, يعصره الألم, الله. فانتبه لصياحه هؤلاء الواجمون السارحون, وهرولوا بإتجاه المرشح, العيون دامعة, فصاح فيهم مالكم؟ في شنو؟. لم يجاوبه أحد, حتي وصل عنده السيد حسن كيري, وأجابه بصوت جهوري سمعه كل الحضور قائلا: يا عبدالله شد حيلك, إنت سقطت, فدمعت العيون من حوله. فقد كان الشعور العام, أن الكل يمكن أن يتحمل أي خبر آخر مهما عظم البلاء فيه, ولن يتقبل سقوط هذا المرشح.
ما حدث بعد ذلك, يمكنني أن أكتب فيه مجلدا, ولكني سإختصره. فقد كانت دهشتي, ودهشة الحاضرين, أن ضحك المرشح بأعلا صوته. ولم يفاجئه هذا الخبر الصاعق, وخاطب الجمع الباكي بإبتسامة عريضة قائلا: تبكوا ليه؟. إنتو وليدات؟. نسقط نترشح تاني. ولا أحد يجيبه, عقدت المفاجأة كل الألسنة. في تلك الأثناء طاف بخيالي بيت الشعر في قصيدة الكريم لإيليا أبو ماضي: وتراه يبسم هازئا في غمرة الخطب الكريه. وتساءلت في نفسي, إن كان هذا الشاعر قد إستحضر شخصية هذا المرشح حينما قال هذا البيت.
ليس هنالك اسوآ من أن تفاجآ بخبر كنت تتوقع العكس منه تماما, كأن تفاجآ بالموت في الوقت الذي تتوقع فيه الحياة في أحسن حالاتها, ثم لا تهتز ولا تجزع؟. وتطايرت الطلبات من أيدي الناس,ونسوا ما هم فيه. ومن شدة الذهول, فقد إستمر في العمل من كانوا يجهزون المكان لكي يخاطبه المرشح بعد فوزه وهم يبكون. ثم صاح المرشح: يلا أذبحوا الخرفان دي عشان الناس تأكل, لم يتحرك أحد, لأنه كانت قد تعطلت فيهم حاسة السمع والإستجابة. ماذا؟ نذبح؟. يا إلهي, ما هذا؟.
وحانت مني التفاتة تجاه الذبائح, ورأيت أن السيد حسن كيري قد ذبح خروفين ويهم بالثالث, لولا أن صاح فيه احد الأعيان, وأمسك بيده قائلا: يا حسن, وقف البتعمل فيهو دة, منو العندو نفس عشان ياكل الفطايس دي. وتعجبت أليس هذا هو الشخص الذي رفض الذبح قبل ساعة . عندها تعلمت دروسا بليغة مجانية, معاشة علي الطبيعة, واقعية من هذا المرشح وأخيه, ألا وهو شكر الله في حالة النعمة والنغمة, والصبر عند الشدائد والمصائب والنوازل مهما عظمت. والتي تقع من السماء تشيلها الأرض, والصقر إن وقع كترة البشاتن عيب' والذبح شكرا لله في هذا الموقف هو قمة الرضاء بما قدره, وقليل من عبادي الشكور. ثم سألت نفسي هذا السؤال: ما هو أسوأ شئ يمكن أن يحدث للإنسان؟ الإجابة هي الموت, وطنت نفسي علي قبول هذه النتيجة, فأي مصيبة تأتي أقل منها فهي مقدور عليها.
وبعد كل هذا الوقت, بدأ الناس يستردون وعيهم, وصاح أحدهم قائلا: دي لعبة كبيرة فيها تزوير, لازم نرفع شكوي, وغادرنا الغابة ليلتها, لا نمر بمنطقة, أو فريق, أو حي من أحياء الغابة, أو ما جاورها من القري, إلا وهم يتأوهون من الألم. ثم تمر السنين, ويزور خالي الكويت مستشفيا في أواسط العام 1984 وينقل لي خبر فوز المرشح عبدالله. ويحكي لي طرفة, وهي أن هذا المرشح, وقبل عملية الفرز للأصوات, التقي بالمحافظ والقاضي المسئول عن الإنتخابات. وقال له أمام الملأ: إذكرك بالتزوير الذي حدث في الإنتخابات السابقة, فلو حدث مرة أخري لقطعت يدك.
ألا رحم الله السيد عبدالله كيري فقد كان خطيبا مفوها ورجلا شجاعا لا يخشي أحدا إلا الله.
عمر