مقال من احد الاخوة الذين عاشوا طفولتهم في الغابة ولنه ليس واحدا منهم ويقول ان له الشرف ان عاش في الغابة ونحن نقول لنا الشرف ان شرف بلادنا شخص الكريم
وهذا مقاله
يوم أن بكت الغابة دما.. لا دموع
بسم الله الرحمن الرحيم
( رعي الرحمن اهلك ما أقاموا وما رحلوا وحياك الغمام. ).
أولا.. أقول.. إنني لست من سكان الغابة..السكني في الغابة شرف لا إدعيه.. ولكم تمنيت أن أكون من ساكنيها..خاصة حينما كنت أسمع أغنية.. (متين ياالله نتمني.. يكون في نقزو مسكنا)..ولكن بحكم عمل الوالد في الزراعة.. فقد سكنت فيها فترة من الزمن.. كانت كافية لكي اتعلم علي يد كوكبة فريدة من الاساتذة الذين علموا السودان.. شرقا وغربا.. شمالا وجنوبا..ووسطا..
واثناء تصفحي للنت قبل أيام.. وعن طريق الصدفه.. قدر الله تعالي, ان اقع علي موقع رابطة أبناء الغابة.. وإن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي أبدا.. وعادت بي الذكريات .. ذكريات نصف قرن من الزمان.. ورأيت أن أقول كلمة حق في أهل الغابة.. وما أعرفه عنهم شهادة لله وللتاريخ. فما تعرفت علي أي إنسان,, ومن أي منطقة في السودان.. او قابلته في الخارج,, وذكرت أنني عشت فترة من عمري في الغابة.. إلا وسألني.. إن كنت تعرف استاذ فلان من الغابة.. فقد كان أستاذي.. أو مدير مدرستي في مدينة كذا...سنة كذا..فهم كما الصحابة... إنتشروا في كل بقاع السودان... يعلمون الناس.. وينشرون العلم والمعرفة.
لقد تعرفت ايضا علي العديد من رموز الغابة.. خلال ترددي عليها.. ولم تكن معرفة شخصية..يعني لم يكونوا أصحابي مثلا..أو أنهم يعرفونني معرفة شخصية. وإنمامعرفتي لهم هي.. معرفة شخص بسيط لرموز وأعلام وكبارات... وهم الذين قلما يجود الزمان بمثلهم..ولم تخلد ذكراهم..وكأنهم هم الذين عناهم الشاعر بقوله: (غضبت له لما رأيت صفاته بلا واصف والشعر تهذي طماطمه).
هؤلاء الرموز.. لو كانوا في اي بقعة من العالم.. لنحتت لهم التماثيل.. ودرست شخصياتهم في كتب التاريخ.. ليتعلم الجيل بعد الجيل.. البذل والعطاء في شخص حاج عبدالحفيظ... والتجرد والايثار في شخص عبدالله كيري...والتفاني في العمل.. والشراكة في التجارة دون تجاوز... كما كان بين السيدان حسن عيسي وعبدالقادر عبدون. وأقسم بالله.. أنني كلما كنت وسيطا.. في حل خلاف بين شريكين..وما أكثر ذلك... اضرب لهم مثلين.. احدهما رايته... وأخر سمعت عنه.. فما رأيته, يعبر عن التجانس والتوافق.. وهو مثال عبدالقادر وحسن عيسي.. وما سمعته.. يعبر عن التنافر والتشاكس.. هو أن دنقلاويا كان له شركاء متشاكسون.. وبعد سنوات باعوا نصيبهم للدنقلاوي..وبعد أن تخلص من شراكتهم... أمرالخطاط أن يشطب كلمة وشركاه.. ويكتب محلات فلان وحده لا شريك له..
وتشاء الاقدار.. وأقابل الدكتور عبدالكريم حسن عيسي, أثناء زيارتي اليتيمة لأمريكا.. حيث أخبرني أن الشراكة قد فضت لكبرهما.. وفعلا حزنت جدا.. وإنطبق علي مثل المرأتين الانصارية والختمية.. حيث سألت إحداهن الأخري قائلة: الآن وقد غاب السيدان عن السودان.. فبمن نحلف؟. فأجابت الأخري قائلة: نسكت .. ونحلف بالله لحين رجوعهما..وسأظل احدث بشراكتهما ما حييت.
ولو كان لي من الامر شيئ.. لقمت بتسمية المدارس باسماء مدرسة شيخ نورالدين, عبدالرحمن عشي, عبدالعزيز نقدالله, عبدالله حمدناالله, بشير حسن, عثمان بكري, بشري عاصي القد,النجومي, عبدالحفيظ هرون الذي جلدني جلدة لا انساها (اربعة منو..لأنني كنت جرسة لا اصبر علي الجلد) والسبب لان غلطتي الوحيدة في الاملاء.. كانت كتابة الف ظاهرة في اسم هرون ..هؤلاء هم الرجال الذين اعطوا للتعليم هيبة ووقارا وضبط.
في احدي المرات.. زرت الاستاذ عبدالله المريوم في مدرسته..في إحدي القري المجاورة للغابة.. وتناولت معهم طعام الافطار.. ولاحظت ان احد الاساتذة,, يرسل في طلب احد تلاميذه.. ويبحث عنه يمنة ويسرة ..حتي وجده ..ثم طلب منه (سفة تمباك)..تخيل أستاذ يطلب من تلميذه سفة تمباك.. عندها إندهشت..ولم إستوعب الموقف أو اتحمله.. فقلت للاستاذ عبدالله.. والله لو حدث هذا زمن الاستاذ فلان.. لارتكبت جريمة... ولكنه لم يندهش.. وقال لي يا عمر.. زمان ديل كان بدرسوكم تعليم فيهو القسوة والرجولة مثال: أ ..أسد, ضا.. ضرب, ها.. هجم, ك.. كسر,قا.. قتل, وانظر الي تعليم اليوم: أ.. أمل, ضا.. ضابط, ها.. هيثم.. ليهم حق يسفوا.
مصطفي سالم وقصيدته,, والتي لم يتبقي في الذاكرة الخربة منها الا قالوا سكت فقلت لا ما زلت أقدح في زنادي... قالوا سلوت فقلت لا إني أحبك يا بلادي),,
ثم إنقطعت إتصالاتي بالغابة في خضم الحياة والأسفار.. وإذا بي اصاب بالحزن.. عندما تصفحت وعلي عجل اخبار الغابة.علي موقع رابطة أبناء الغابة.. فوجدت أن منهم من قضي نحبه.. ومنهم من ينتظر. وإذا بي أفاجأ أن الموت قد غيب الكثيرين منهم..وكذلك أستاذي.. واول من علمني حرفا إنجليزيا.. ألا وهو الاستاذ.. إبراهيم أحمد عمر.. عليه رحمة الله.. وإذا بي اسائل نفسي هل تري يا عمر.. ان احدا سيخلد في هذه الدنيا.. كيف غاب عليك هذا .. انك ميت وإنهم ميتون.. ووجب علينا أن نسأل الله للأموات منهم الفردوس الأعلي.. وأن يرحمهم.. ويجزيهم أجر ما قدموا من خير خيرا.
وكما قلت سابقا.. لو كان لي من الأمر شيئ.. لشققت الطرق والقنوات والمشاريع الزراعية واعمال البر.. وسميتها باسم مشروع شيخ عوض حمور الزراعي , حاج عبدالحفيظ, كورينا, عبدالله كيري, حاج بلول, عوض حماد, السيد الأنور, عبدالله خواجة, حسن كيرى, الخير شيخ محمد, وقاضي المحاكم الشعبية عبدالله العوض. هؤلاء هم الذين فتحوا المدارس.. وشقوا المجاري.. وفتحوا المشاريع الزراعية.. وقدموا للغابة خدمات جليلة.. ولم يتم تكريمهم بتخليد ذكراهم..وكأني بالمثل لا كرامة لنبي في قومه.. مع علمي أن أهل الغابة لن ينسوهم أبدا . وفي الحقيقة لم أكن لإستثني فردا واحدا من أهل الغابة الكرام دون تخليد اسمه.. فكلهم يستحق ذلك.. وعن جدارة والقائمة تطول. ..وأرجو أن تجدوا لي العذر في الاطالة ..فإنها ذكريات كامنة.. ووجدت لها منفسا.. واعود الي موضوع الرسالة.. ذلك اليوم المشهود الذي بكت فيه الغابة.. رجالا ونساءا.. اطفالا وشيوخا.ذلك اليوم الذي عشته مع أهل الغابة.. ولن تنساه الذاكرة.. ذلك اليوم ... وكأنه يوم القيامة.. حينما بكي الرجال بأعلا اصواتهم.. كما الأطفال.. من شدة الحزن....حاولت مقارنة هذا الجمع من الناس.. في ذلك اليوم العصيب.. والألم الذي إعتصر الناس فيه.. بيوم رحيل السيد الأنور.. ولكنه كان أصعب منه... كان ذلك اليوم .. وإن لم تخني الذاكرة في العام 1978م