قرأت ما كتبه الأخ الكريم/ الرشيد خالد إدريس مشكورا مقالة عن والدنا المرحوم محمد محي الدين قيلي من واقع معايشته وقد احسن.. وطلب الى منذ أكثر من ثمانية أشهر الأخ الكريم/ عبد الرحيم الشيخ محمد خير أثابه الله، بين يدي اعداد سفره عن الغابة ورجالاتها، أن أوافيه بسيرة والدنا.. فحفزني ما خطه الاخ الرشيد واستجبت لما طلب الاخ عبد الرحيم.. وكتبت السطور التالية من السيرة المغمورة لوالدنا علها تفيد وتفي بعض حق له ولأهل الغابة ولنكون نحن بعض شئ من ذكره.. واليكم ما كتبت:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سبرة والدنا الأستاذ والمربي/محمد محي الدين قيلي
1. ولد في عام 1923 وتوفي في يوليو 1980 الموافق 19 رمضان 1400 عن عمر ناهز 57 عاما وهو من أوائل الذين نالوا قسطا من التعليم في ابناء الغابة وقد درس بمعهد امدرمان العلمي ثم هاجر الى مصر لاستكمال دراسته بكلية دار العلوم بالقاهرة حيث درس اللغة العربية والتاريخ والدراسات الاسلامية وكان ذلك في خمسينيات القرن الماضي.
2. اتسم رحمه الله في اخلاقه بالصرامة والحزم وكثير من الأناة في عمله وتعامله مع الآخرين، وكان جادا قليل الكلام ويأخذ نفسه والآخرين من المتعاملين معه بالعزيمة خاصة في ما يتصل بالوعد والعهد. وكان بقدر ما يتيح لنا، نحن أبنائه من الحرية في التصرف إلا إنه كان يدقق كثيرا في تصرفاتنا التي يمكن القول إنها كانت تجانب الصواب والمتعلقة بالسلوك أو اداء الواجبات في تلك الفترة المبكرة من أعمارنا، وذلك من خلال فتح نقاش هادئ يأخذ وقتا طويلا، لماذا فعلتم كذا وألم بكن الجدر أن تفعلوا كذا، وهذا الفعل فيه كذا وعليه كذا وقيل فيه كذا... إلخ، وقد كان هذا أسلوبه رحمه الله في توصيل رسالته التربوية.
3. وفي فترة حياته الطلابية كان وطنيا مناضلا منشغلا بالهم العام للبلاد حينها وهو مقاومة الاستعمار الانجليزي، فقد كان ناشطا سياسيا مناصرا وعاملا ضمن القوى المناهضة للاستعمار كشأن سائر شباب السودان وأفريقيا الرازحة تحت الاستعمار حينها فكان من قادة المظاهرات ضد الحكم الاستعماري ، وتم القبض عليه ضمن آخرين وصدرت ضده أحكام قضائية بالغرامة والتعهد بحسن السير والسلوك وذلك في عام 1948 (انظر صحيفة الرأي العام الصادرة في 31 مارس 1956 عدد توثيقي خاص باستقلال السودان، أطلعني عليها عمنا المكرم/ عبد القادر عثمان قيلي أمد الله في عمره ومتعه بالعافية واحتفظت بها). وان امكن لأرفقت صورة الوثيقة.
4. واستمر النشاط السياسي لوالدنا رحمه الله في فترة دراسته بالقاهرة حتى اضطره ذلك للهرب في عام 1954 والعودة للسودان دون أن يستلم شهادة العالمية التي تمنحها الكلية لخريجيها وقد استحقها. وقد ذكر لي بعض زملائه الدارسين بمصر وعاصروه وكذلك نفر كريم من أبناء الغابة الذين كانوا بمصر من غير الطلاب، ان والدي رحمه الله قد تعرض مع مجموعة من زملائه الناشطين للمطاردة والتفتيش من قبل أمن الدولة المصرية عندئذ استنادا على معلومات نقلها أحدهم من المقربين الى المصريين وقد تسبب ذلك في صدمة عظيمة لوالدي ظل متأثرا طوال حياته وأدت للحد من نشاطه العام.
5. بعد وصوله السودان هاربا من مصر التحق بوزارة المعارف ومن ثم تم تعيينه مدرسا وتم نقله للعمل في توريت عام 1955 وهو ذات العام الذي انفجر فيه التمرد الجنوبي بالسودان في ما عرف بأحداث توريت وقد نجا والدي بأعجوبة من قتل محقق حيث داهمت ليلا مجموعة من الجنوبيين مسلحين بأسلحة بيضاء منزله الذي كان يقيم فيه بمفرده ويرافقه أحد الجنوبيين كان يقوم بخدمته، وبعدما نهبوا كل أمتعته في المنزل وقفوا على رأسه حيث كان يتظاهر بالنوم يريدون قتله ولكن خادمه رفض ذلك وعارضه فتركوه. وعندما بزغ الفجر غادر المنزل وسافر إلى جوبا ومنها عاد للخرطوم.
6. ويذكر أنه في فترة الحكم العسكري الأول (عبود) كان مقررا أن يزور طلعت فريد وزير الداخلية الغابة ضمن جولة له في المديرية الشمالية قادما من دنقلا، فأعد أهل الغابة العدة لاستقباله بكرمهم المعهود وكلفوا والدي رحمه الله أن يقدم كلمة أهل الغابة في اللقاء ولكن فجأة قرر طلعت فريد لأسباب مبهمة غن يختصر زيارته للغابة ويتوجه سريعا الى الدبة في الذي كان أهل الغابة أعدوا لضيافته، وبعدما وصل موكب الوزير أراد مرافقوه الاعتذار عن برنامج الزيارة والضيافة والاكتفاء بالاستماع لكلمة أبناء الغابة مما تسبب في غضب غهلنا بالغابة، وعلى الفور ألغى والدي الكلمة التي أعدها وارتجل أخرى بنقد لاذع للوزير، ثم غادر الوزير الغابة وسط مخاوف ساورت الجميع من اعتقال والدي وسجنه في ظل الحكم العسكري وهو الأمر الذي لم يحدث.
7. بعد عودته من توريت عمل والدي في كثير من بقاع السودان معلما للغة العربية والتربية الاسلامية والتاريخ بالمدارس والمعاهد الدينية الوسطى، ومن ذلك غنه عمل في نهاية خمسينيات القرن الماضي وبداية الستينيات في كل من بورتسودان و الفاشر، وفي النصف الأول من الستينيات في معهد كورتي الأوسط ومعهد دنقلا الأوسط حتى عام 1964 ثم انتقل مديرا لمعهد نوري الغوسط وعمل به لمدة عامين ثم انتقل الى مدني حيث عمل بالمعهد الديني العالي (تحول في ما بعد إلى مدرسة النيل الأزرق الثانوية العليا) وعمل بمدرسة مدني الثانوية العليا الحكومية حتى عام 1971 ثم تم نقله للعمل بمدرسة دنقلا الثانوية العليا وعمل بها لمدة عامين ثم انتقل بعدها لمدرسة أمدرمان الثانوية بنات في 1973، ثم عمل بمدرسة الدبة الثانوية العليا في عام 1975 ثم عمل مديرا لمدرسة الحصاحيصا الشعبية الثانوية العليا في 1976 لمدة عامين ثم مدارس الشعب الثانوية بالخرطوم بحري ثم انتدب للمملكة العربية السعودية وعمل بالمنطقة الشرقية بمدينة القطيف لمدة عام واحد وداهمه المرض فعاد للسودان وكنت قد رافقته غلى القاهرة مستشفيا في عام 1978 وكنت حينها طالبا بكلية الزراعة بشبين الكوم التابعة لجامعة المنوفية. وعاد من القاهرة ليواصل علاجه بالخرطوم حتى اختاره الله غلى جواره في يوليو 1980.
8. كان قد تزوج من والدتنا المرحومة الحاجة/ بهية محمد غحمد أحمد زيادة حمور وهو ما يزال طالبا بمصر.. وأنجب معها 7 من البنين والبنات حسب الترتيب هم: عادل، تماضر، أميرة، معاوية، محي الدين، سناء، إلهام.
فاللهم اغفر له وارحمه وارض عنه واجعله في الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.