صفحه من مذكرات الحسن ود زينب
الموتى يتدللون ... أنا لا..!
يوم لا ينسى .. إجتياز قوز رمال حتى ضفتة الشرقيه والجلوس بين و تحت أغصان مسكيت بعضها يتواضع زاحفا وبعضها يكاد يغوص فى الارض كأنها تغارُ من جذورها ... جلستُ والرفاق يلعبون ...! نهاية أول يوم بالمدرسة عمري سبعه أعوام ... لاحت أجزاء من دارنا البيضاء بين النخيل و أشجار المانجو ... الكل فرح بالعوده مطمئن بالجوار ... وأنا أعلم ولا أبوح لأحد فلا أمي لا أبي في ألإنتظار وما لا يسـُر يجري بين جُدر الدار.. فبحضور خالتي ( الساره ) تعديلات كثيرة تجري... أسئله كثيره تجري وتختفي وأنا من يلهث ولا إجابات أو عشم بل تنتصب أُخرى أمام عيني في تحدي لا تفلح يدى فى إزاحتها...!
إستقر هم الاسرة لسنين في غياب أبي (العبيد) وصمته حين يعود ... لم نسعد بحضوره شهرا حتى أغتيلت فرحتـُنا بحضور( الساره ) التي أضحت همي الاكبر ..!! لماذا كيف إقتحمتنا وإحتلت عرش أمي و أقصتها بعيدا غرب قوز الرمال ما معنى زوجة أبى !؟.
إختفاء أمي وإزاحتي كمهملات لكهف بركن قصي مهجور .. حضور حبوبه الطاعم لتسكب الكثير من النصائح في أذنى خلاصتها الصبر ثم الصبر ثم الصبر وهى غير صابره هلوعا لما مســني من ضـُر...! دموعها أغزر من حديثها وأكثر ملوحه ... غفوتُ ورأسى فى حجرها ويدها تعبث بشعري تـُقصي عنه حبات الرمال وشئ من أزهار المسكيت .. إنصرفت حبوبه دون وداع ربما ... وربما قبلتني لكن لم أكن هناك ...!!.للإنسان لسانين وسحنتين... كيف؟!! . تخاطبني خالـــتي (الساره ) عندما نكون بعيدا عن والدي بحروف وألفاظ غريبه لا تشــبه النساء ...! ســحنتها تتغير الي شـخص لا أعرفه وأشفق على الأرض من مشيتها !!
رغم إنجازي لها بحبور كافة ما تطلب من اعمــــــــال مشـاوير فأنا غير مرغوب فيه . تسعد بغيابي إلا عنـــــدما تحتاجني ولا تجدنى فتثور .. رغـــــم محاولاتي الجاده لم أسـتطع أن أُلبي رغبتيها ...!أقــــضي حوائجها ولا أكُن بالدار.!!
توالت الايام تحصنتُ مما يضرني تعلمتُ أن أسـتمتع بالمتاح علي ندرته عددا وقِصَرِه أمدا فاُعـظمه وألتصق به بقوة .. كـزيارات حبــوبه الطاعم الغير مرغوب فيها ولحظات السمر واللهو مع إبن عمي ( عتمان) .. يكبرني بخمس اعوام نعم الاخ والصديق ..زياراتي لامي متباعده وبرفقه وإذن مسبق .. أصبحت بعد عامين أكثر من ثلاث مرات إســـــــبوعيا ولفترات طويله ورفعت عني الرقابه فالأفضل أن أكون هناك إلا عند الحوجه .
وهبني الله قدرة عظيمه علي الموائمه فإستفدت كثيرا من هذه الظروف القاسيه وإستمتعتُ بالمتاح..
أذكر وأنا في الصف الثالث خرجتُ برفقــة عتــمان يـــوم ( الهيوب ) عشا الميتين فشباب الحله التحت من حاج بلول حتى جبرونا يحتفون بهذه المناسبه بزخم شديد بالمغرب فطبيعة المنطقه بأشجارها الكثيفه ومبانيها المتقاربه وأزقتها الضيقه ساحه مثاليه لحرب الشوارع وظهور اساطير مثل بت المريق وعمشيقه التى تسد مدخل حلتى المصطفنجى والسعداب ... معارك عنيفه تندلع بين الحـــلال ... ضرب ونيران وكمائن تنصب لإقتناص من يسهى ويبتعد عن رفاقه بدون زعل أو ضغائن ... عبرنا كُبري المناصره كان السعودي يحمل كتله ضخمه من البرسيم علي ظهر حماره ويسرع ويتخطانا مغبرا ذلك الطريق الضيق الممتد من الحفير الفوق وحتى حلتى المصطفنجي والسعداب وهو يغني من كلمات عباس كلوده ( شالك الزين باللوري قام ما بصدق ..أنا بالقيام )...
طـُنجرة قرع مطبوخ بالحليب أعدتها آمنه جيد و خمس طبقات من قراصة التمر تتدافع رائحة الشمار ورائحة السمن البلدي المنبعثتان منها سجالا لتعبر أنفك وكلتيهما نصر وفتح للشهيه بينما أعدت أمونه بابكر سته صحون ( فتة ) كنا نتخطف اللحم ونجري ونحن نصرخ ثم نعود لباقى الصحن ونجهز ماعليه من رز والخبز يبدو سعيدا بما عليه من ساخن المرق .... وكانت تصر علينا ان لا نترك فى الصحن بقايا ثم تغسل لنا أيدينا فى الصحن ونترحم على الميتين ثم ندلف على باقى الطعام من قرع بالحليب او قراصة بلح او لقيمات أعدتها حسونه رابه وشريفيه بت شموم ... كانت هناك أسئله كثيره لا أجد لها إجابات مثل لماذا يطلق عليه عشا الميتين وهو صباحا وقت الفطور ثم لماذا كل هذا التنوع وهذه الكميات هل الموتى يتدللون ويتشهون . ولماذا الرجال غير عابئين بالامر ثم لماذا زيارة المناصرة ومعنا الكثير من اللقيمات وقراصة التمر وكميه من الماء نضعها للطيور ام للموتى ام للبعشوم...!
آثار أصابع كثيره نهبت من المقبره (البيان ) قدر من الرمال الفضيه اللامعه بعض منه نثر على رؤسنا عمدا بينما نعاقب على ما يندس هناك عرضا ... هل هناك تراب مقدس نفرح بحمله على رؤسنا بينما ...!؟
ما أن غابت الشمس وأفطر الصائمون حتى إندلعت المعركة بين الفرقتين .. وجلست فى نهايه البرش بعد الصلاة أمام دكان زياده الحاج لم أشارك إلا متابعة بعينى عندما يعبرون الطريق مطاردين بعضهم يندس بصراية زياده وبعضهم يتوارى بين اشجار النخيل الممتده من امام دار ساتى محمد جنوبا وشرقا ... طلب منى ابن عمي عتمان المشاركة لكنى لم استطع ... فقد كانت تطاردنى فرق اخري لا يجدى النخيل ولا الحياش في الاختباء منها ..؟!
عدنا الى الدار ليلا تعشيت مع عتمان ثم دخلت الى غرفتي ونمت ... لم اشارك بعد ذلك ابد فى احتفالات الهيوب ولم أتناول عشائي معهم
بلغنا الفرقه الرابعه الابتدائيه التى لا يعلم اهميتها إلا المعلمين أما الاسره فلا شئ يتغير فاولوياتهم مازالت البوقه والنوريق والبرسيم والسعيه ... وسوق السبت ... صافرة الباخره الجلاء تنداح فوق الاشجار كأسراب العصافير فيهرع من لم يبلغ المحطة يحمل شنطة الصفيح التى بها ملابسه وكتبه وكرتونة الزواده ... مركز إمتحانات بنين بالدبه والبنات بمنصوركوتي ... تمم الاساتذه على الحضور ثم صعدنا السقاله فى صف الى حيث خصص لنا على ارض الصندل ووضعنا اثقالنا على الارضيه وهرعنا الى حيث نودع اهلنا التحيه الاخيره كان جدى النور وعتمان مازالا واقفين حيث دس كل منهما في جيبي نقودا وشدا على يدى بثقه وابتسامه كانت افضل من كل زاد ... أما الاستاذ القامه بشرى عاصي القيد يقف هناك بجلابيته شديده البياض وقامته الفارهه يحينا ثم شبك كفيه اعلى رأسه ملوحا فى فى عشم وود لابنائه ثم أستدار وأختفى خلف أشجار اللبخ ... ولقد علمت لاحقا أن حبوبه الطاعم التى تخشى ركوب الحمير بلغت المحطه والباخره إستدارت فأصبحنا فى الناحيه الاخرى لكنها لم تغادر حتى اختفت الباخرة عند ذلك المنحنى قرب تنقسى الجزيره ...
أمى زينب التى بعد أن راجعت معى مراجعه شامله ووضعت لى خطة المذاكره اثناء الامتحانات وحصنتني بآيات قرآنيه عديده عبرنا ومعنا جدي النور قوز الرمال ثم ودعتني وداعا مازالت تحتوينى واحتويها ... عدنا بعد اسبوع وكانت العودة ليلا وأيضا لم يكن ابي هناك في الانتظار ... كانت الليلة مظلمه بارده واشجار الذرة مخيفه اسمع نهيق الحمير بعيدا تارة يشوبه الغموض والرهبه واخرى قريبا يصم الاذنين وعواء الكلاب والمح تارة ( بت المريق ) تتحرك بين الاشجار ولكن وجودى خلف جدى النور فى حماره العالي ويداي تلتفان بقوه حول خصره وخدى ملتصق بظهره وخلفنا عتمان يحمل صفيحتى على السرج امامه يحمي ظهري واخبارى أن امى وحبوبه الطاعم وخالاتى خصوصا الشول في الانتظار بعشاء وحفل إستقبال كل ذلك جعلني سعيدا ولم تعكر الساره صفو حدائقى تلك إلا صباحا ...
ليلة لا تنسى ونحن جميعا نتعشي والاسئله تنهال على من امي مستفسره عن اجاباتي لبعض الاسئله وعندما إطمئن قلبها على مستوي أدائي قالت بصوت عال مبروك النجاح ومجموع كبير إنشاء الله ... ثم أخذني معه عتمان ونمت بغرفتى حتى الضحى ولا يعلم بوجودي أحد ..
حصلت على اعلى مجموع بالمركز وقبلت بالوسطى بالغابه حسب رغبتى وكانت من اجمل ايام طفولتى وصباى
أربعة سنوات وأنا أنهل من الكتب رحيق وعصارة الابداع البشري وقد تدرجت في القراءاه بمعاونة امي التي كانت تحضر لى الكتب كل اسبوع وتناقشنى فيها وتضيف لي بعض المعارف التي تفتح شهيتي أكثر ... وتملء قلبى فرحا وحسن عزاء ... فليس بالضرورة أن تعيش مع من تحب لتسعد بل يكفى أن تعرف أن هناك من يحبك بحق حتى تنسي وتنسي وتنسي فقد كان فى جدى النور وابن عمي عتمان وخالتى الطاعم وأمي ... ليس الكفايه بل بذخ وترف النعيم النفسى والروحى الذى يجُب كل ضرر... فخرجت أنسان معافي رغم حجم وعدد وخطورة الاصابات التى ... الحمد لله إنتهت المرحله الوسطي ولم اترجل عن صهوة تفوقي وكنت ايضا الحائز على المجموع الاكبر ... وخرجت فى تلك الليله مهاجرا للعلم ... وكانت الخرطوم فى الانتظار ...!