بسم الله الرحمن الرحيم
كثيرا ما تنتابنى الحيره وأنا استمع لاحاديث الحرب الدائره هنا وهناك ... وكتبتُ الكثير من فروض التعبير او الانشاء في المرحله الثانويه عن الحرب واثرها المدمر ...فرغم أنها السبيل الوحيد لنيل شرف ومقامات الشهاده .. وقد شغلت الحرب في الجنوب مساحه كبيره من تفكيري الصامت وأنا اعايش فقد الاسره لشاب عزيز وكيف بكت الغابه خبر إستشهاده ...
الاهل يفرحون لنيل أحدهم قدر الشهيد ...لكنهم يحزنون لفقدهم مقام الشهيد ودوره بينهم ... وكان لرحيل الفاضل ابن الحي وابن الاسره البار بكل العلاقات الاسريه والانسانيه وقع مألم علي الاحياء .. وراودني شعور غريب وقتها أن هناك خطأ ما في فهم الشهاده ... فقد كنت أحس أن الحياه مازالت في حاجة أمس للفاضل من حاجته هو للشهاده ....فأمثاله يبلغون عند الله عز وجل مقامات الشهيد وارفع وإن لم يخوضوا غمارات الحروب فعمتي حسونه رابه التي تعيش بمفردها في تلك الغرفه الصغيره التي تطل مباشرة علي الشارع .... سور غرفتها هو سور الحوش ... وقد بلغت الستين لكنها في أمن وطمأنينه لا يعيشها ملكا محروسا بجيوش جراره من الفرسان ... لم أشاهد عمتي حسونه رابه ترتدي الثوب فقط جلابيتها ذات الأكمام الطويله وطرحه تغطي شعرها وكتفيها في وقار عظيم عندما تخرج لتزور الجيران او تجلب البركه من ضريح المناصره .. وكنت أفغر فاهي وأنا أسمعها تتحدث فقد كان لصوتها الرقيق طعم الرطب والسمن والحليب كان فيه قدر من الحب لهذه الحياه والاحياء رغم بخل الحياة عليها وكانت تفاخر وتقول دائما ( أنا بت أحمد وعمي محمد فهمك أيه ...) . هذه العمه كانت جهادا أعظم من الحرب في حياة الفاضل لم يكن يخرج من الحي إلا ليمر بها ويصبح عليها ويتأكد أن في غرفتها الشامله ما يكفي من اللبن والسكر وغيره من الطعام فبجوار العنقريب بنبرين للضيافه وثلاث لادايات للشاي وصاج علي ثلاثه أُخر وصندوق قديم من الخشب عليه طنجرتين صغيرتين وصحنين و براد الشاي وثلاثه كبابي ... وكثيرا جدا ما يشرب معها شاي المغرب لمجرد أن يخدمها ويقوم بترتيب ونظافة ( دارها الغرفه ) التي كانت تحرص عليها دائما في هيئه مرتبة ونظيفه علي مر السنين ...
الحياة ( في حسونه رابه وأمثالها ) في حاجة امس للفاضل من الحرب ... كان عباس كلوده يشاطره الاهتمام والرعايه وكثير ما يصرون علي العشاء معها في دارها العامرة بالحب والانسانيه عندما تنجح سنارات كلوده في إنقاص عدد السمك الذى يمر بالغابه وتجعلها المحطة الاخيره لها ...
الفاضل وحسونه رابه رغم المسافه البعيد بينهما كشخصين في تلك الفتره إلا أنهما كانا يمثلنا بالنسبة لي ملخص واضح ووافي للانسانيه ... ومن وجودهما خرجت بأن الانسان لايموت ... فالانسان مشاعر ومواقف نبيله فقط يختفي الجسد ... وتبقي الا نسانيه وتبقي تلك القيم والاعتبارات الانسانيه في القلوب التي طعمتها وتشربت بها ... حتى وإن رحل عن الدنيا كل الذين عاصروهم فإن القيم والمواقف النبيله التى بذروها تنبت وتنجب عبر الاجيال فهي جينات لا تموت وتورث لتبقي الحياه قيمة تستحق إن يضحي الانسان بحياته ويستشهد فالشهيد يرحل جسده لتبقي القيم النبيله في أخرين ... الشهيد لا يضحي لتبقي اجساد تحمل عقول الحمير وقلوب العقارب ... فهذه الاجساد التي تقتات بأجساد بشر أخرين لاتستحق الحياه ... فرغم أن الاسود والنمور تقتات علي الظباء والغزلان وتقتات الثعابين علي العصافير والارانب فتختفي أشياء جميله عن الكون لتبقي تلك القساوة والوحشيه والرعب إلا أن ذلك في حساباتي أقل فظاعتة ووحشيه من الحرب لان الاسود لا تقتل بعضعها والثعبان لا يلتقم الثعبان وفي الحرب يقتات الانسان بالانسان ويفتخرُ...؟؟!!
الكثير من الحروب وصمة عار في جبين الانسان ..
الحياة تسع الجميع وقديما قال الشاعر خالد بن عبدالله بن صفوان بن عمرو بن الاهتم التميمي :
ذريني فإن الشح يا أم هيثم = لصالح أخلاق الرجال سروق
و كل كريم يتقي الذم بالقرى = و للحق بين الصالحين طريق
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها = و لكن أخلاق الرجال تضيق
الحسن العبيد / الغابه 1975م